القاهرة ـ أ.ش.أ
هل تموت "أمثولة الأفريقي الفصيح" والمثقف المقاوم نيلسون مانديلا ؟..ثمة اشارات مثيرة للقلق في الصحافة الغربية حول تجربة لها ان تنتهي بنهاية صاحبها مثلما حدث من قبل في التجربة الناصرية..لكن من المبكر على اي حال اصدار هذا الحكم الذي يبدو ان البعض في الغرب متلهف على اصداره!.
"الأفريقي الفصيح" والخطيب المفوه نيلسون مانديلا هو صاحب ثورة في الأفكار بقدر ماهي ثورة غيرت الكثير من الأفكار سواء على مستوى شعبه او العالم فيما تبقى أمثولته حافلة بالدروس المفيدة لكل الباحثين عن الحرية وخاصة في العالم العربي فيما لن ينسى العرب مواقفه المدافعة عن ليبيا في مواجهة الحصار والمنددة بالغزو الأمريكي للعراق والداعية لاستعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
وفيما مضى الساسة قدما في بيانات النعي لمانديلا الذي قضي مساء الخميس الماضي في جوهانسبرج عن عمر يناهز ال95 عاما كان هناك مايثير السخرية والتأمل ايضا في مدى النفاق السياسي في هذا العالم.
فمن اللافت ان يكون من بين الناعين بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الاسرائيلية وان يصف مانديلا بأنه "قدوة ومناضل من اجل الحرية" بينما ذهب الرئيس السوري بشار الأسد الى ان "حياة مانديلا درس للطغاة وهو مصدر الهام للمقاتلين من اجل الحرية".
فآلام الفلسطينيين في ظل الاحتلال الاستيطاني الاسرائيلي لاتختلف في الجوهر عن آلام شعب جنوب افريقيا في ظل نظام الفصل العنصري الذي ناضل مانديلا لاسقاطه كما ان "تلاوين الأبارتيد وسطوة الأقلية الطائفية على الأغلبية الشعبية" ليست خافية على كل ذي عينين في المشهد السوري.
وهكذا فكل يسعى "لتأويل مانديلا" بما يخدم قضيته التي قد تكون معادية في الصميم لجوهر ثقافة المناضل المقاوم الذي حكم عليه نظام الفصل العنصري بالسجن مدى الحياة حتى اضطر للافراج عنه في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي واصبح في عام 1994 رئيسا لجنوب افريقيا.
ومن المقرر ان يوارى نيلسون مانديلا الثرى في مقابر اجداده يوم الخامس عشر من شهر ديسمبر الجاري حسبما اعلن جاكوب زوما الرئيس الحالي لجنوب افريقيا وسيكون الرئيس الأمريكي باراك اوباما وزوجته ميشيل ضمن المشاركين في مراسم الدفن
واذا كان السؤال يتردد من حين لآخر :"ماعلاقة المقاوم بالثقافة"؟ فان مانديلا الذي حصل على جائزة نوبل للسلام عام 1993 كان رمزا لثقافة المقاومة السلمية وبالقدر ذاته فهو رمز للنضال المترفع عن مغانم السلطة وهو الرجل الذي ترك مقعد الحكم بارادته ولم يفعل مثل غيره من قادة ثورات عربية تحولوا الى طغاة بمجرد الوصول للسلطة ولم يتركوا مقعد الحكم الا بأمر الموت وبعد ان أسسوا مايعرف "بالاستعمار الداخلي"!.
ومانديلا الذي ظل سجينا في "روبن ايلاند" على مدى 27 عاما هو رمز لثقافة التسامح والترفع عن شهوة الانتقام رغم انه عانى شخصيا الكثير من ويلات نظام الفصل العنصري التي تجرعها ابناء جلدته من السود في جنوب افريقيا على مدى اكثر من 350 عاما .
ومع ذلك فبمجرد وصوله للسلطة شرع في بناء مجتمع حر وعادل للجميع وتبنى ثقافة المصالحة بين الأغلبية والأقلية على اساس المساواة في دولة تحترم القانون ودون ان يغفل اهمية "الحقيقة" في عملية المصالحة التاريخية والتي تعني منح كل الفرص للضحايا للتعبير عن مآساتهم كشرط جوهري لتضميد الجراح الأليمة حتى حق للأسقف الشهير دزموند توتو ان يصفه بأنه "الرجل الذي علم امة منقسمة كيف تتوحد".
انه الرجل الذي حارب الكراهية بالحب كما يصفه شاب ابيض في جنوب افريقيا يدعى رودولف ترومبيلمان وهو يصب جأم غضبه على الساسة الذين يحكمون البلاد الآن معتبرا انهم تخلوا بالفعل عن تراث مانديلا حتى قبل رحيله وباتوا اسرى شبق السلطة والثروة.
اما الناشطة في المجتمع المدني جوي سابيكا فتقول لصحيفة الأوبزرفر البريطانية ان مانديلا تحول بالفعل الى ايقونة لثقافة المقاومة في العالم ككل معتبرة ان "اسطورة مانديلا تتجاوز اسطورة غاندي" غير انها تتفق مع الشاب رودولف ترومبليمان الذي يدرس علوم الحاسوب او الكمبيوتر في ان الساسة الذين خلفوا نيلسون مانديلا ليسوا ابدا اوفياء لتراثه فهم يركضون بنهم وراء ملذات السلطة.
يبدو ان الأمر ينطوي على مشكلة تؤشر الى ان تراث مانديلا النضالي في خطر..وهي اشكالية حدثت من قبل في عدة تجارب بالعالم الثالث عندما تنتهي التجربة النضالية بنهاية صاحبها كما هو الحال في تجربة جمال عبد الناصر الذي كان مانديلا من كبار المعجبين به.
هل يجد مانديلا الذي كتب سيرته الذاتية بعنوان :"رحلتي الطويلة الى الحرية" قصيدته العربية وشاعره المصري مثلما كتب الشاعر المصرى احمد فؤاد نجم عن جيفارا؟!..من المفارقات ان "الفاجومي" رحل عن هذه الحياة الدنيا قبل يومين فحسب من رحيل مانديلا وربما كتب قصيدة عن هذا المناضل الكبير لو امتد به العمر.
ولعل أمثولة مانديلا تقدم ايضا حلولا لليسار العربي في متاهته التي طالت فهذا المناضل الذي تحول الى اسطورة عالمية لم يسقط ابدا في فخ التشنج الايديولوجي ولم يقع فريسة لتصلب الشرايين العقائدية او تستعبده الشعارات والمزايدات والرطانات التي لايفهمها رجل الشارع ولاتهمه .
كان مانديلا احد المثقفين الكبار في افريقيا وانطلق دوما في حركته ونضاله المبدئي من فهم اصيل للواقع وقدرة على تغيير هذا الواقع للأفضل مع "روح افريقية تتسع للجميع ورجاحة عقل ثوري" ربما تتجلى في اقواله المأثورة مثل :"قاتلت ضد هيمنة البيض وقاتلت ايضا ضد هيمنة السود".
من هنا احسن رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" جوزيف بلاتر التعبير عن طرف من عظمة الرجل الذي كان يدلل باسم "ماديبو" عندما وصفه "بالشخص غير العادي ولعله احد العظماء على مر العصور" فيما نكست اعلام الدول الأعضاء في الفيفا حزنا على رجل كان ايضا صاحب اهتمامات رياضية وعشق للساحرة المستديرة.
فى العماء المروع لنظام الفصل العنصري واحتدام المظلومية التاريخية تشكلت ثقافة نيلسون مانديلا في المبتدأ بحكايات وقصص امه في بلدتهم بمنطقة "الترانسكاي" التي اسهمت مع دراسته وسنوات الكفاح والمكابدات والمعاناة في بناء شخصية قوامها الحكمة والبراءة والايمان بأن "الحرية حقيقة لايمكن وأدها".
ولأنه لم يفقد ابدا القدرة على فهم الواقع وخصائص كل مرحلة كانت قراراته صائبة فرغم انه رمز كبير لثقافة المقاومة السلمية يبقى نيلسون مانديلا صاحب قرار التخلي عن خيار العمل السلمي والتحول للكفاح المسلح بعد "مذبحة شاربفيل" التي ارتكبتها شرطة النظام العنصري عام 1960 واسفرت عن مقتل واصابة المئات.
وفي سجن جزيرة روبن الذي دخله عام 1962 كان للمقاوم ان يصنع بالجهد الثقافي وعودا بهية على الجزيرة المعذبة وان يصنع اسطورته فاذا بالمحامي الضليع في القانون يساعد رفاقه السجناء على استكمال دراساتهم ويتولى تثقفيهم الثوري بل وان يغير من طباع السجانين الغليظة وان يحول دون كثير من آذاهم للمسجونين.
فهل انتهت بالفعل تجربة مانديلا صاحب مقولة :"ليس المهم اننا عشنا الحياة وانما مايهم ماأحدثناه من فرق في حياة الآخرين وهو مايحدد مغزى الحياة التي نعيشها"؟!..هل قضي الأمر وضاع تراث الرجل الذي قال :"في اليوم الأخير من حياتي اريد ان اتيقن ان من عاشوا بعدي سيقولون هذا الرجل الذي يرقد هنا قام بواجبه من اجل بلده وشعبه".
لعل شعب جنوب افريقيا هو القادر قبل غيره على الاجابة على هذا النوع من الأسئلة اما أمثولة مانديلا فباقية في ضمائر كل الأحرار في هذه الدنيا الواسعة..مانديلا :بأى كلمات ننعيك؟!..بك نضمد جراحنا وفى حضور الأفريقي الفصيح وحضرة القيمة والقامة نعرف ان هناك مايستحق الحياة على هذه الأرض وننتظر العودة بروح عاشق اسطورى لايهزه الغياب المؤقت او تهديدات اللحظة والأحكام الفورية بنهاية التجربة الثورية الرائدة.
باق انت يامانديلا في كوامن الأشواق الأبدية للحرية والعدل والتقدم..باق في الضمير الانساني لأنه لن يستوي المارق والقديس..أمثولتك خالدة ودالة على ان الحزن ليست مرساتنا الافريقية الوحيدة وان لليل ان ينحسر عن وجه الوطن.
سلام عليك ايها الافريقي الفصيح يوم قاومت ويوم ضمدت الجراح..سلام عليك بعد ان اتممت الرسالة وجاهدت الجهاد الحسن وتركت تراثك امانة في عنق الشعب الذي احببته..سلام على كل من يتمثل امثولتك ويواصل مسيرتك حتى لاتتحول الأوطان لغيمة تنثرها هبة ريح!.
أرسل تعليقك