طرطوس - سانا
بين العديد من المجموعات التي رفدت العمل التطوعي الاجتماعي والثقافي بمحافظة طرطوس في الفترة الأخيرة لا يزال نادي الرسم المجاني للأطفال صاحب العمل الأكثر أسبقية وإبداعا إذ كان من أوائل المبادرات الأهلية التي جعلت بعض شوارع المدينة تبدو كورشة رسم مفتوحة الفضاء تتناثر فيها لوحات لفنانين صغار تحرروا من وصاية الكبار ليصوروا على الورق الأبيض وأحجار الطرقات أبهى أحلامهم وخيالاتهم على وقع الموسيقا.
ويعزز النادي التجربة الناجحة لنادي الرسم المجاني في اللاذقية الذي أسسه عام 2005 فنان الكاريكاتير عصام حسن والدكتور ياسر غانم لتشهد طرطوس ولادة ناديها عام 2008 بأنشطة جوالة قبل أن تؤمن المحافظة مقرا له في حديقة السمؤل المتميزة بموقع هادئ وإمكانية افتراش الشوارع المحيطة بها لتنفيذ نشاط الرسم في مشهد يشكل بحد ذاته لوحة تضج بالحياة والألوان.
وتؤكد الدكتورة غادة زغبور مديرة النادي في طرطوس أن الفكرة جاءت من الرغبة في الخروج عن الشكل التقليدي الغالب على نشاطات الأطفال حيث يطبق النادي فكرة الذهاب اليهم في الشوارع التي اعتادوا اللعب بها بدلا من دعوتهم إليه ويهتم بخلق علاقة أفضل بين الأطفال من جهة وبينهم وبين الحي الذي يقيمون فيه من جهة أخرى وكذلك بين الأهالي والتوعية فيما يخص نظافة الحي وتعزيز الانضباط الذاتي وحماية المرافق العامة وهو ما تجلى خصوصا في الأنشطة الجوالة التي كان أبرزها ورشة الرسم التي أقيمت على أرض الكورنيش البحري قرب سلال المهملات بقصد احاطتها برسوم تشجع على استخدام هذه السلال بدلا من إلقاء القمامة حولها.
وتشير زغبور إلى أن نشاط النادي يعزز علاقة الأطفال بالأمكنة بحيث تصبح ذاكرتهم مرتبطة بطقس حر يعبرون به عن أنفسهم وتغدو الصلة أكثر جمالا بينهم وبين الشوارع والأحياء وصولا إلى الوطن ككل فضلا عن تنمية روح المبادرة لدى الأطفال عبر انخراطهم في نشاطات النادي وكسر حالة الغربة بينهم وبين أدوات الرسم المختلفة ومحاولة تطوير الحس الفني لديهم سواء فيما يتعلق بالرسم أو ما يرافقه من فعاليات موسيقية وقصصية ومسرحية.
ويوفر النادي من تبرعات أصدقائه جميع لوازم الرسم من الورق وألوان الخشب والشمع والفلومستر والمائي وأقلام الرصاص ويتم تنفيذ النشاط باختيار يومين من أيام السبت كل شهر دون الحاجة إلى دعاية مسبقة حيث يبدأ الأطفال بالتوافد بمجرد سماع صوت فيروز أو المقطوعات الكلاسيكية تصدح في الحي ويصل عدد المشاركين في كثير من الأحيان إلى 200 طفل.
وتوضح زغبور العضو في جمعية "أنا وطفلي" للتدخل المبكر لدى الأطفال المتأخرين نمائيا أن النادي لا يفرض أي موضوع للرسم بل يترك للأطفال الحرية الكاملة في اختيار الفكرة ونوع الألوان المستخدمة بعيدا عن أسلوب التوجيه الذي يتميز به جو البيت والمدرسة ما يشجع الطفل ويحرض مخيلته بما فيها من رؤى خاصة مختلفة عما يراه الكبار مبينة أن النادي استقطب أطفالا من مختلف الفئات الاجتماعية حيث شارك أبناء الوافدين والرحل جنبا إلى جنب مع أبناء طرطوس لتزداد موضوعات الرسم غنى وتنوعا وليبرز التمايز بين أحلام الصغار كل بحسب بيئته فالطفل الذي ينتمي إلى الرحل واعتاد على حياة الخيام قد يرسم بناء كبيرا تتجلى فيه أحلامه والطفل الوافد قد يرسم بيته الذي يحن للعودة إليه كل يوم.
وتلفت زغبور إلى أهمية البعد الاجتماعي للنادي إذ يتعامل المشرفون المتطوعون مع الأطفال دون تمييز ويجلسون جميعا على سوية واحدة ما يشجع الأطفال على الانفتاح على بعضهم بعضا بعيدا عن الخجل أو قلة الثقة بالنفس التي قد تشوب سلوك الطفل ذي المستوى المادي أو الدراسي الأقل بحيث يشعر الكل بثمرة الانجاز عند عرض الرسومات في الشارع والبدء بنشاط الرسم بالطباشير الملونة على الأرض التي يتشاركون في تنظيفها فيما بعد.
من جهته يشير الكاتب محمد سعيد حسين الذي شارك في تأسيس نادي الرسم المجاني بطرطوس إلى أن النادي كان من المبادرات السباقة التي ساهمت في تعزيز ثقافة التطوع بطرطوس بفعاليات ابداعية إذ كان أول من نفذ العلم السوري ببصمات الأيدي على القماش منذ بدايات الأزمة الراهنة ضمن فعالية "بصمتي سوريتي".
ويلفت إلى أن عدد المشرفين المتطوعين منذ تأسيس النادي بلغ نحو مئتي شاب وشابة دون اشتراط تخصصهم في مجال فني حيث يتم توجيه المشرف وذوي الطفل المرافقين له إلى عدم التدخل في مسار الرسم أو تأنيب الطفل أو استهجان أي رسمة لا تحقق الشروط الصحيحة أو قواعد الرسم البديهية بل اللجوء بدلا من ذلك إلى تفهم الأطفال ودوافعهم وبناء علاقات جميلة معهم قائمة على الصداقة والندية ما يخلق حالة من الإيجابية لديهم.
ويوضح حسين أن أعمار الأطفال المشاركين تتراوح بين سنتين إلى 14 سنة حيث أصبح العديد ممن تجاوزوا هذا الحد مشرفين في النادي مبينا أن المتطوعين استفادوا إلى درجة كبيرة من هذه التجربة حيث اقتربوا أكثر من عالم الأطفال ونمت قدراتهم على فهمه والتعامل مع مختلف الحالات بصبر وتشجيع مهما كانت الفروق العمرية بين الطفل والمشرف.
ويلفت إلى أن كل فعالية للنادي يسبقها اجتماع تحضيري للمشرفين ويليها اجتماع لتقويم الأخطاء مع توجيه النقد البناء وتقبله بكل روح رياضية مبينا أن النادي يهتم بالتشبيك مع جهات أهلية تتشابه في الأهداف كالنادي السينمائي وجمعية العاديات الثقافية وكورال صافيتا.
ويؤكد حسين أهمية النشاطات المصاحبة لنشاط الرسم الأساسي حيث يتيح النادي لمن يريد من الأطفال تقديم اغان فولكلورية ومسرحيات من تأليفهم وعزف المقطوعات الموسيقية إلى جانب إقامة ورشات مسرحية واستضافة فنانين كما يتيح فسحة للكبار والصغار للقراءة واستعارة الكتب إذ يضم مكتبة تحوي عشرات القصص للأطفال واليافعين وصولا إلى الكتب السينمائية والفنية للكبار.
وعن تجربته كواحد من أوائل المتطوعين في النادي يوضح الممثل المسرحي الشاب أشرف رحمة أنه استفاد إلى درجة كبيرة من عمله في النادي حيث اقترب اكثر من الأطفال ونمت قدرته على فهم عالمهم والتعامل مع مختلف الحالات والاعمار بصبر وتشجيع مهما كانت الفروق العمرية بينه وبين الطفل كبيرة.
ورغم عدم ضمان استمرار التطوع نظرا لحاجته نسبيا إلى التفرغ يأمل المشرفون استمرار النادي الذي يختلف عن غيره من المجموعات التطوعية بأن عمله لم يرتبط فقط بالأزمة بل كان سابقا لها ليستمر بقوة خلال الأزمة ويثبت اقدامه بنشاطات ذات ابعاد اجتماعية مهمة تركز على تلاقي الأطفال من مختلف أنحاء سورية في طرطوس وتغذية ميولهم الفنية واعطائهم فسحة تعبير حرة توحدهم.
أرسل تعليقك