صدر حديثا عن مركز دراسات الوحدة العربية كتاب “علم التاريخ العربي الحديث: الخطاب التاريخي والدولة الأمة” للدكتور يوسف الشويري.
وقال الناشر إنّ هذا الكتاب ليس مجرد دراسة مباشرة لل كتابات التاريخية العربية الحديثة، بل يقدم قراءة جديدة للفكر العربي الحديث والمعاصر استناداً إلى دلائل حسيّة وإحالات لا يرقى إليها الشك، إذ لم يعد جائزاً بعد الآن الخوض في تصنيف هذا الفكر من دون إدراك الفارق بين الخطاب التاريخي في القرن التاسع عشر وخطاب القرن العشرين. وهذا يعني التوقف، مثلاً، عن الإصرار على القول إننا ما زلنا نطرح الأسئلة إياها منذ أن غزا نابليون أرض الكنانة وبلاد الشام، فالكتابة التي تستند إلى الوعي التاريخي تضع حدّاً لهّذه البلادة الذهنية التي تدّعي أن لا جديد تحت الشمس وتعتقد أن الفكر العربي قد دفن نفسه في حفرة لا قرار له فيها.
وليس الوعي التاريخي، بحسب كلمة المركز، سلعة فكرية استهلاكية قد نختار الترويج لها حيناً، ثم نعمد إلى انتقاء غيرها في لحظة من لحظات التجلي وشطحات النفس أو ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب. إن وجودنا بأكمله أضحى رهن هذا الوعي ومدى عمقه وتجذّره واستمراريته. ويكمن هذا الوعي في إدراك الكائن البشري لعلاقته بذاته ومجتمعه وتفاعل كل منهما في عملية دينامية تؤدي إلى الترسّخ والتجاوز في آن معاً.
وقال المؤلف في مقدمة عمله المميز إن الفكر العربي الحديث لم يَعثُر بَعدُ على مؤرِّخِه. كانت كتابة تاريخ هذا الفكر صناعة رائجة حتى قبل أقل من عقد مضى، وهي اليوم إما راكدة، وإما تم تجاوزها بصمت.
وتعود دراسة الفكر العربي في العالم الأنغلو – ساكسوني، بوصفه موضوعاً أكاديمياً، إلى زمن أعمال رائدة لتشارلز أدامز، وج. هايورث دَن، وهاملتون غيب. وتناولت هذه الأعمال، التي نُشِرَت بين عامي 1932 و1947، أفكارَ المثقّفين العرب بطريقة ودّيّة، واجتهدت في تعداد النواحي الإيجابيّة لمساهماتهم الفكرية. وثمة اتّجاه آخر، تطوّر بعد الحرب العالميّة الثانية، وسعى لإعادة التوازن من خلال التوصُّل إلى خلاصات أقل إيجابيّة. ومن أهم ممثّليه غ. إ. فون غرونِباوم، وبرنارد لويس، وإيلي خدّوري، وجمع من المؤرّخين وعلماء السياسة الآخرين.
وتابع الكاتب أنّ أُولى ومضات علم التأريخ العربي الحديث قد ظهرت في بداية القرن التاسع عشر، مواكِبةً لظهور الوحدة الإقليمية الأرضيّة المحدَّدة المعالم نسبياً، التي تحكمها دولة شبه غربيّة. لقد شكل نموذج محمّد علي في مصر، إضافة إلى جهود التحديث التي اعتمدها سلاطين عثمانيون وحكام متعدِّدون، في القرن التاسع عشر، الخلفيّةَ التي نشأت على مسرحها هذه الحركة الفكريّة العصريّة. ثم جاء التأثير المباشر للثقافة الغربيّة، والتجارة، والقوّة العسكريّة، لتبدّل – وتشكّل – الهويّات الوطنيّة لدى الطبقة العربيّة المثقّفة، الحديثة العهد.
ويرى الدكتور يوسف الشويري أنّ هذا النموذج من الأحداث تكرَّر في أشكال متعدِّدة، عبر معظم البلدان العربيّة. وكان كلٌّ من الإيقاع، والوتيرة، والتوقيت، يتوقّف على موقع البلد الجغرافي، والاستقلال الداخلي الذي ينعم به، ومدى اتساع تماسّه مع الإصلاح العثماني والتأثير الغربي، وبنيته الاجتماعيّة – الاقتصاديّة، ودرجة مركزيّة الدولة.
وقال إنّ ميل معظم المؤرّخين العرب المعاصرين إلى تكريس بحوثهم الأكاديميّة لماضي دولهم الوطنيّة الخاصّة تعاظم، وخضع ماضي العرب، أو الإسلام التاريخي، على أيديهم، لعملية إعادة توزيع وتَحَاصُص بين الكيانات السياسيّة الجديدة. إضافة إلى هذا، استحضر الباحثون العرب على اختلافهم، ومؤسسات التربية في الدول العربيّة، تاريخ ما قبل الإسلام، أو التاريخ القديم الماضي، في كل البلدان العربيّة تقريباً، ودمجوه بتاريخهم الوطني. ونتيجة ذلك، فإن هذا الاتجاه الحديث ليس مجرّد استمرار للتقاليد السالفة، ولا يستأنف الأصول الماضية أو يستعيدها، على نحو صادق، لإعادة سرد الأحداث. فلقد انقطع تواصل كل منظومة الأفكار التي شكّلت سرديّة الإسلام التاريخي، بأسسها، وشروطها، وقواعدها، ومواضيع درسها، ومفاهيمها، وبياناتها، ومواقعها، فما عاد يمكن أن تُعرَف، تحت تأثير الإصلاحات العثمانيّة والرأسمالية الأوروبيّة.
من هنا، فإن الحظوظ السياسيّة للإسلام وسلالاته، قد برزت في الأعمال ذات الأجزاء المتعدّدة لمؤرّخين مسلمين، مثل الطبري (838 – 923)، وابن الأثير (1160 – 1233)، أو المقريزي (1364 – 1442)، كونها الموضوعات الرئيسية التي تُنشَر وتُكرّر في أقاليم معيّنة، بغض النظر عن الحدود الجغرافيّة، أو الولاءات الوطنيّة.
من جهة أخرى، قال المؤلف إنه لجدير بالملاحظة أن ثلاثة مؤرّخين عرب، مثّلوا لبنان ومصر والمغرب، وأطلقوا عمليّة استقصاء واسع النطاق بشأن هوياتهم الوطنيّة المتعددة، كل في بلده، انتهوا باعتماد العروبة، ولو بألفاظٍ مختلفة ودرجات متفاوتة من الالتزام، على أنها المصير النهائي لدولهم الثلاث. وقد شرعوا جميعاً في ترسيم مجال التمايز فيما يتعلّق بخصائص دولهم، أو الاختلافات المحددة التي تميزها عن الدول الأمم الأخرى، ومن خلال إجراء عملية تؤدي إلى عزل العناصر الفردية، فأعادوا عن غير قصد إظهار فرادة الثقافة العربيّة، على أنها قاسم مشترك بين مختلف هذه العناصر. وهكذا، فإن علاقتهم المفاهيميّة دلّت على خطوط الطبقات المعقّدة والمتقلّبة للهويات المحلية والوطنية، رابطة بين واحدة وأخرى من خلال توضيح طريق متعرّج في المسار التاريخي للمجتمعات ذات الصلة الوثيقة.
وفي حين يندّد القوميّون العرب التقليديّون بالانقسام السياسي والإقليمي في وطنهم، ويقولون إنه من فعل المكائد أو المؤامرات الإمبرياليّة، هناك جيل جديد أصبح أكثر اعتياداً أو توافقاً مع التنوّع التاريخي الداخلي والتنمية غير المتوازنة لمختلف البلدان العربيّة. وربما قدّم أعضاء من النخبة المثقفة المغاربية لأول مرة هذا الانقلاب في المواقف الأيديولوجية، وكانت بلدانهم قد خاضت حملات نضال شاق ضد السياسة الفرنسية الاستعماريّة، التي كانت تسعى لمحو تراثهم الثقافي.
وكشف المؤلف في مقدمة الإنتاج الفكري أنّ هذه الدراسة تسعى لأن تكون إعادةَ اعتبار أوليّة للتحليل التاريخي، في وصف التغيّر المفاجئ والتحوّلات الحادّة. وتركّز اهتمامها في ظهور بُنًى ونظمٍ جديدة من التفكير والتحليل، وفي إعادة انتظامها وتحلُّلها. ويتطابق تقسيمها قسمين، مع حقبتين منفصلتين جذرياً في التاريخ العربي الحديث، وفي التشكيلات السرديّة الفكريّة. ويُعدّ المؤلفون الأفراد، بدلاً من أن يكونوا موضوع خطابهم، مجرّد أمثلة نموذجيّة. وإن إعادة التركيب (Synthesis) الآن، للتاريخ العام للفكر العربي في القرنين التاسع عشر والعشرين، لا يمكن إلا أن تكون مؤقّتة، وغير نهائيّة.
وتؤخذ أعمال المؤرخين العرب، المشار إليها في هذا الكتاب، بوصفها نتاجات أكاديميّة جادّة، أظهرت، ومثّلت، وركّزت الطبيعة الانتقاليّة للمجتمعات العربيّة. ومع أن المهمة التي تضطلع بها هذه الأعمال والمقاربة المنهجيّة التي تدعم بعض الحجج لم تغب عن البال، فإن صحّة تفسيرها للأحداث، والصرامة الفكرية فيها، هي التي حظيت بالتنقيب الموضوعي. ولو كانت هذه الدراسة اكتفت بالتحليل الوظيفي، لكانت انتهت إلى أن تكون معالجة أنتروبولوجية، أو تحقيقاً في المنطق الدفاعي.
قد يبدو أسلوب الكتاب، واندفاعته في الوصف، أمرين محل نقدٍ بالغ، حتى وهو يتضمّن إيحاءات ساخرة، أو ربما تعقيبات هازئة من حالة علم التأريخ العربي الحديث. والكاتب، بوصفه لبنانياً وعربياً واجه مشكلات وتجارب كهذه، لا يسعه إلا أن يشارك في مشاعر القلق والتطلعات التي لدى أبناء وطنه. وفي هذا المنظور، قد تتحوّل الدراسة إلى كونها ممارسة للنقد الذاتي.
قد يهمك ايضا:
إنشاء المركز الوطني السينماتوغرافي وإنتاج 20 فيلما في السنة
إتفاقية بين الحكومة الجزائرية ونظيرتها الروسية لإفتتاح مركزين ثقافيين لكلا البلدين
أرسل تعليقك