خسر الاتحاد الأوروبي بعد 47 عاماً من العمل، أكبر تكتل اقتصادي في العالم، للمرة الأولى، دولة تمثل ثاني اقتصاد في أوروبا والخامس في العالم، وبدورها بدأت بريطانيا السبت، حياتها الجديدة خارج الاتحاد بتحديات تتمثل بنسج علاقات مع 27 دولة وتحديد مكانها الجديد في العالم. وفي منتصف ليل الجمعة أُزيل علم بريطانيا من أمام مقر البرلمان الأوروبي في بروكسل، لتصبح مجرد «دولة خارجية». وأمام برلمان ويستمنستر في لندن، تبادل البريطانيون المؤيدون لبريكست القبلات وغنوا النشيد الوطني «ليحمي الله الملكة» احتفالاً بانتصار حملة الخروج والانفصال. بدأ المحتشدون حول قصر ويستمنستر، مقر البرلمان، العدّ التنازلي ليعلو في نهايته التصفيق والهتاف وصيحات الفرح مصحوبة بإطلاق بالونات في السماء وتبادل العناق، يقودهم نايجل فاراج الذي خسر بخروج مقعده في البرلمان الأوروبي لكنّه حقّق حلمه القديم. وقال فاراج في كلمة أمام الحشد إنّ «هذه أهمّ لحظة في التاريخ الحديث» للمملكة المتحدة، مضيفاً على وقع تصفيق شديد: «لقد فعلناها (...) لقد انتصرت الديموقراطية».
وفي شمال أنجلترا الذي صوتت مدنه بكثافة لصالح الانفصال في استفتاء يونيو (حزيران) 2016، أُطلقت الألعاب النارية. لكن في عاصمة اسكوتلندا، إدنبرة، أُضيأت الشموع حزناً على الانفصال مع حلم عودة الإقليم مستقلاً يوماً ما إلى الحضن الأوروبي، كما وعدت الوزيرة الأولى نيكولا ستيرجن. وقالت إنّه «وقت حزين جداً تُواكبه مشاعر غضب». وأكّدت تصميمها على المضي قدماً في تنظيم استفتاء على الاستقلال، رغم رفض لندن. وسيظلّ العلم الأوروبي يُرفرف على برلمان اسكوتلندا. ومن بروكسل إلى برلين، مروراً بباريس، عبَّر القادة الأوروبيون عن أسفهم. في آيرلندا الشمالية، رُفعت لافتة كُتب عليها «هذه الجزيرة ترفض بريكست». وقال دكلان فيرون، المسؤول في حركة «الشعوب الحدودية ضد بريكست» أمام البرلمان في بلفاست عاصمة إقليم آيرلندا الشمالية: «نشعر بالحزن للخروج من الاتحاد وخسارة حقوقنا» بسبب حكومة «يمينية التوجه لا تكترث لما يحصل هنا».
وقد وعد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، في الأشهر الأخيرة بعصر ذهبي جديد لبلده، لكن ما زالت أمامه مهام كبيرة لجعل شعاره «بريطانيا عالمية» حقيقة.
ومع خروج 66 مليون نسمة، سيتراجع عدد سكان الاتحاد الأوروبي إلى نحو 446 مليوناً. وفي حال قررت المملكة المتحدة يوماً العودة إلى الاتحاد، فسيتحتم عليها المرور عبر آلية الانضمام الاعتيادية. وتوقف النواب البريطانيون الـ73 في البرلمان الأوروبي، والذين انتُخبوا في مايو عن العمل اعتباراً من مطلع الشهر الجاري، وسيشغل 27 نائباً من 14 دولة عضواً بعض المقاعد، في حين تُخصص الـ46 المتبقية لدول قد تنضم مستقبلاً إلى التكتل. وبذلك يتراجع عدد أعضاء البرلمان الأوروبي من 751 إلى 705. ولن يُدعى بوريس جونسون لحضور القمم الأوروبية، كما لن يشارك أعضاء الحكومة البريطانية في الاجتماعات الوزارية الأوروبية.
ولن يعود بإمكان المواطنين البريطانيين بصفتهم مواطني دولة أجنبية التقدم لوظائف في المؤسسات الأوروبية في بروكسل، ولن يوظَّف فيها بريطانيون، قبل انتهاء الفترة الانتقالية. ولكن ستظل المملكة المتحدة خاضعة لمحكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي والتي تختص بجميع الإجراءات المرفوعة قبل نهاية الفترة الانتقالية. لكنّ ولاية القضاة البريطانيين الثلاثة للمحكمة ستنتهي على الفور، في حين ستستمر المحامية العامة البريطانية في حضور جلسات المحكمة في انتظار تعيين خلف لها.
لكن في البداية لن يتغير الكثير. فخلال الفترة الانتقالية التي تنتهي في 31 ديسمبر (كانون الأول) 2020، ستستمر التعاملات اليومية بين لندن وبروكسل على ما هي عليه، وستُناقَش علاقاتهما مستقبلاً.
وستواصل المملكة المتحدة، ثاني أكبر مساهم في ميزانية الاتحاد الأوروبي بعد ألمانيا، دفع مساهماتها حتى انتهاء الفترة الانتقالية. وحسب الأرقام الرسمية، يعيش نحو 1,2 مليون بريطاني في دول الاتحاد الأوروبي، وبشكل أساسي في إسبانيا وآيرلندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا. ويشير مكتب الإحصاءات البريطاني إلى أن 2,9 مليون مواطن من دول الاتحاد الـ27 يقيمون في المملكة المتحدة، ما يمثل نحو 4,6% من سكانها. وبموجب اتفاق الانفصال، يحتفظ المهاجرون البريطانيون والأوروبيون في طرفي بحر المانش المقيمون فيها قبل انتهاء الفترة الانتقالية بحقوقهم في الإقامة والعمل في دولة الاستقبال. وعلى المواطنين الأوروبيين المقيمين في المملكة المتحدة تسجيل أسمائهم للاستفادة من هذه الحقوق. أما بالنسبة إلى البريطانيين المقيمين في الاتحاد الأوروبي، فتختلف الإجراءات من بلد لآخر. وستبقى حرية التنقل سارية حتى نهاية ديسمبر 2020. وسيتم التفاوض على تفاصيل الحقوق المتبادلة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
قضت المملكة المتحدة عدة سنوات تفاوض حول شروط انفصالها مع فريق المفوضية الأوروبية برئاسة ميشال بارنييه. ولكن المفاوضات دخلت، الجمعة، مرحلة جديدة. وسيعرض بارنييه برنامجه التفاوضي بشأن العلاقة المستقبلية، ولا سيما على المستوى التجاري.
وأعلن جونسون، الجمعة، في خطاب وجّهه إلى الأمّة قبل ساعة من خروج بلاده رسمياً من الاتّحاد الأوروبي، أنّ بريكست «ليس النهاية، بل بداية فصل جديد من مسيرتنا الوطنيّة الكبرى». وقال: «الأهمّ هذه الليلة هو أن نقول إنّها ليست النهاية بل البداية، إنّها لحظة بزوغ الفجر وبدء فصل جديد من مسيرتنا الوطنية الكبرى».
هل يلتفت جونسون إلى الولايات المتحدة التي تمد له يدها؟ هل يصبح منافساً جديداً على أبواب الاتحاد الأوروبي؟ أم بالعكس، يتقرب بقوة من الأوروبيين الذين يبقون شركاء لا يمكن الالتفاف عليهم؟
وعد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، الجمعة، فور خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بتعزيز العلاقات الثنائية بين واشنطن ولندن. وقال بومبيو في تغريدة بعيد وقوع الطلاق رسمياً بين لندن وبروكسل: «سنواصل تعزيز علاقاتنا القوية والمثمرة والمزدهرة أصلاً مع بريطانيا، في الوقت الذي تفتح فيه صفحة جديدة» من تاريخها.
ويفترض أن يقدم جونسون، غداً (الاثنين)، رؤيته في خطاب، بينما سيعرض كبير المفاوضين الأوروبيين أولويات المرحلة الجديدة للمفاوضات التي تفتتح في لندن.
ويفترض أن يتم تحديد مجالات التعاون في التجارة وصيد السمك والأمن وغيرها، بحلول نهاية العام الجاري. وفي الأسابيع المقبلة، ستبدأ مفاوضات تبدو شاقة ونتائجها غير مؤكدة. وكتب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في رسالة إلى البريطانيين محذراً: «لا يمكننا أن نسمح بمنافسة ضارة بيننا». وأضاف: «أنتم تغادرون الاتحاد الأوروبي لكن لا تغادرون أوروبا. لا تنفصلون لا عن فرنسا ولا عن صداقة شعبها»، مؤكداً أن «بحر المانش لم ينجح في الفصل بين مصائرنا، وبريكست لن يتمكن من ذلك أيضاً». وتأمل لندن في التوصل إلى نتيجة في زمن قياسي قبل نهاية العام وتستبعد تمديد المرحلة الانتقالية إلى ما بعد 2020، وترى المفوضية الأوروبية هذه الفترة الزمنية ضيقة.
وحذّر مسؤولو الاتحاد الأوروبي (رؤساء المجلس والمفوضية والبرلمان) في مقال نُشر في الصحافة الأوروبية، من أنّه «في غياب شروط عادلة في مجالات البيئة والعمل والنظام الضريبي ومِنح الدولة، لا يمكن أن تكون ثمة فرص واسعة للوصول إلى السوق الموحدة». وقالوا: «لا يمكننا الحفاظ على المكتسبات المنشودة من العضوية حين نفقد هذه الصفة». من جانبه، حذر رئيس الوزراء الآيرلندي ليو فرادكار من «تهديد وجودي» على الاقتصاد الآيرلندي في حال لم يتم التوصل إلى اتفاق تجاري لمرحلة ما بعد بريكست. بدروها، رأت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أنّ بريكست يمثّل «تغييراً جذرياً» للاتحاد الأوروبي، وفق ما نقل عنها المتحدث باسم الحكومة شتيفان سيبرت، في مؤتمر صحافي.
ويشكل الحدث التاريخي فصلاً جديداً، لكنه ليس نهاية الانقسامات التي مزّقت بريطانيا، إذ إن مؤيدي البقاء في الاتحاد الأوروبي يشعرون بالمرارة خصوصاً في المناطق التي صوّت معظم ناخبيها مع البقاء في الاتحاد، في أسكوتلندا وآيرلندا الشمالية. وقال كوري (29 عاماً) الذي كان يحتفل مع أشد المؤيدين لبريكست أمام البرلمان البريطاني بدعوة من المشكك في جدوى الوحدة الأوروبية نايجل فاراج: «إنني سعيد لأن هذا حدث فعلاً». وأضاف: «إنه أمر محزن قليلاً لأنه كان من الأفضل للاتحاد الأوروبي أن يولي مزيداً من الاهتمام للدول الأعضاء». وقال مايكل بن، المتقاعد البالغ 73 عاماً: «كانت بروكسل تملي علينا ما يجب فعله. الأمور ستتغيّر. مسرور جداً لبريكست». أما بيتر بنسون، المحاسب البالغ 57 عاماً، فقال أمام البرلمان في لندن: «بريطانيا تعزل نفسها عن باقي العالم (...) علينا تسميتها بريطانيا الصغرى».
وتباينت عناوين الصحف البريطانية الصادرة، أمس (السبت)، في أول يوم بعد الانفصال الرسمي وبدت منقسمة بشأن الحدث، وتراوحت تعليقاتها وعناوينها بين الاحتفال والحزن. لكنّ العديد من الصحف طرحت علامات استفهام ملؤها التشكيك بشأن المستقبل الذي ينتظر المملكة بعد أن وَقَع الطلاق، مشدّدة على أنّ البلاد لا تزال منقسمة بعد ثلاثة أعوام ونصف من الاستفتاء. وقالت صحيفة «الغارديان» اليسارية إنّ «المشاعر المختلطة في يوم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تُظهر أنّ المملكة المتحدة ليست مرتاحة مع نفسها». وعنونت صحيفة «ذا صن» المؤيدة للخروج بـ«عليكم بالمغادرة لا الحرب»، وهي عبارة محوّرة للجملة الشهيرة «عليكم بالحب لا الحرب»
وكان العنوان الرئيسي لصحيفة «آي ويك إند» (التي تميل إلى تيار يسار الوسط): «ماذا بعد؟» وكتبت صحيفة «ديلي ميرور» ساخرةً في عنوانها الرئيسي: «ابنوا الآن بريطانيا العظمى التي وُعِدْنا بها». من جهتها، رأت صحيفة «ديلي تلغراف» المؤيّدة لبريكست والمقرّبة من جونسون فقالت في افتتاحيتها: «حسناً فعل الشعب البريطاني، وأخيراً خرجنا»، مؤكّدة أنّ رئيس الوزراء يعتزم فرض رقابة جمركية على المنتجات الأوروبية. فيما كتب الموقع الإلكتروني لصحيفة «ميل» يقول: «إنجاز الانسحاب». وكتبت صحيفة «التايمز» «نقطة البداية: المملكة المتحدة تغادرالاتحاد الأوروبي». أما صحيفة «ديلي إكسبرس» الشعبية فقد عنونت «مملكة متّحدة جديدة مجيدة».
أمّا صحيفة «ديلي ريكورد» الشعبية الاسكوتلندية فاستخدمت أسلوب السخرية لمقاربة الوضع الجديد للبلاد، إذ غيّرت العبارة المنقوشة على قطعة الـ50 بنساً النقدية التي سُكّت لمناسبة بريكست وهي «سلام، ازدهار وصداقة مع جميع الدول» إلى «عزلة وضعف وانقسام».
قد يهمك ايضــــاً:
لقاء صالح وترامب يكشف خلافات شيعية في العراق وسط دعم غير متوقع من مقتدى الصدر وعمار الحكيم
برهم صالح يبحث مع دونالد ترامب الوجود الأميركي وتخفيضه
أرسل تعليقك