ألقى ألبرت كامو منذ ستين عاما مضت خطابا كان بمثابة خطاب حياته كلها .لقد كان بالواقع خطابا كاد أن يكلّفه حياته تقريبا ، فضلا عن أنه قد فشل في هدفه و المتمثل في إنقاذ أرواح عدد لا يحصى من المدنيين ، من العرب و الفرنسيين على حد السواء ، و الذين علقوا في ملزمة الإرهاب و الذي استخدمه كلاّ من الجانبين في حرب استقلال الجزائر .
كما ألقى المنطق وراء خطابه ، إلى جانب الأسباب التي ذكرها كامو ، ضوءا هاما على ما سميّ “بالحرب على الإرهاب” ، والتي تخاض حاليا بالغرب .
تصاعدت بحلول عام 1956 ، الحرب المندلعة بين الحركة الوطنية الجزائرية جبهة التحرير الوطني ، و الجيش الفرنسي في تبادل سفك الدماء و حمّامات الدم ؛ كان ذلك من ذبح السكان المعمّرين الفرنسيين أو ما سميوا بالأقدام السوداء بمدينة فيلب فيل أو “سكيكدة” حاليا، حيث قطّعت أشلاء أكثر من مائة من الرجال والنساء والأطفال على يد جيرانهم العرب ، إلى سياسة “المسؤولية الجماعية” في القتل العشوائي للعرب من رجال و نساء و أطفال على يد الجنود الفرنسيين والميليشيات المدنية.
مظاهرات بالجزائر العاصمة ، ديسمير 1960
لم يكن الجزائريون وحدهم من يموت ، على حد كلمات كامو ، بل كانت الجزائر نفسها من تموت .
لهذا السبب ، و بظهيرة يوم أحد في الثاني و العشرين من يناير بفترة وجيزة من بعد الساعة الرابعة ، صعد كامو متشنّجا عصبيّا إلى المنصة في Cercle du Progrès ، و هو مبنا إسلاميا بوسط الجزائر العاصمة .
متجوّلا بين عالمين مختلفين تماما ، ولد كامو و ترعرع في أحد أحياء الطبقة العاملة بالعاصمة . كان هناك من ناحية ارتباطه الحاد بالشعب و الأماكن في الجزائر الفرنسية ؛ و من ناحية أخرى ، كان لديه التزاما قويا بالمقابل نحو مثل الجمهورية الفرنسية في الحريّة ، المساواة و الآخاء .
حارب كامو بالبداية ، كصحفي ساخر ثم كروائي و بعدها كاتب مقالات ، حيث توّجت مهنته سريعا بجائزة نوبل في الأدب ، من أجل إيصال تلك المثل العليا إلى ثمانية ملايين عربي و أمازيغي ، و الذين يعيشون تحت الحكم الفرنسي .
لقد كان كامو و بخلاف العديد من زملائه من الأقدام السوداء ، مرعوبا من التمييز العنصري المقونن و الفعلي ضد العرب والأمازيغ . متشبّثا بأمل أن تبقى “الجزائر الفرنسية” فرنسية إلى أن تصبح ديمقراطية بالكامل ، أصرّ كامو على فكرة أن العرب و الأقدام السوداء “قد حكم عليهم بالعيش معا” . بيد أنه و مع ذلك قد خشي بحلول عام 1956 بأنه قد حكم عليهم بقتل بعضهم البعض بدلا من ذلك . لقد كان مشهد إراقة الدماء من جراء أعمال الإرهاب ضد السكان المدنيين عبئا لا يطاق بالمرة ، أخبر صديقا له ذات مرة بأن الجزائر “مثبّتة بحلقي” .
بجرعات متساوية من الجرأة و اليأس ، كتب كامو في أواخر عام 1955 سلسلة من الافتتاحيات بمجلة الإكسبريس يطالب فيها بهدنة مدنية . بدت معاهدة بين باريس و جبهة التحرير الوطني كما سمح بها كامو ، مستحيلة المنال ؛ فقد كان العنف يحملها بعيدا . و لكن هل إتفق كلا الجانبين على الأقل لتجنيب المدنيين الويلات؟ ، و إن لم يكن الأمر كذلك ، فقد كتب قائلا :”فلن يسكن الجزائر إذا سوى القتلة و الضحايا . وحده الميت من سيكون بريئا” .
و بإدراك منه أنه كان من السهل للغاية حثّ باريس و دفعها من بعيد ، قرّر كامو مخاطرا بنفسه كثيرا ساعتها التحدّث علانية عن هذه المبادرة بمسقط رأسه بالجزائر العاصمة .
كانت الجزائر بدورها تنتظر ، فقد ملئت القاعة بجمهور مؤلفا من ألف و خمسامئة رجل و إمرأة ، كانوا فرنسيين و مسلمين ، مثقّفون و أصحاب متاجر ، منتشرين بالسلالم و الغرف المجاورة . كان الجو متوتّرا تكسوه الحمى ، خاصة و أن حشدا مهدّدا من المستعمرين الفرنسيين المعارضين للاجتماع قد احتشد خارج المبنى . أخبر كامو الحاضرين أنه كان من واجبه كجزائري فرنسي و كاتب معا من “توجيه نداء بسيط لإنسانيتكم” .
بإقترح كامو و بالعودة إلى المبادرة التي قد أذاعها لأول مرة بمجلة الإكسبرس ، على أن توافق جبهة التحرير الوطني و السلطات الفرنسية على “هدنة مدنية” . نظر حول القاعة ليخبر مستمعيه بأنه لم يأت ليطلب منهم “التخلي عن أي من قناعاتهم” . وتابع أنه بغض النظر عن جميع تلك الأسباب الإيديولوجية و السياسية و التاريخية التي على المحك ، “فلا وجود لأي سبب يبرّر قتل الأبرياء” . أصرّ كامو على أنه بعيدا كل البعد عن الوهم ؛ فالحل بالنسبة “للوضع الراهن” كان يفوق إمكانياته ، ليحثّ مستمعيه بدلا من ذلك على “التخلّي عن ما يجعل هذا الموقف لا يغتفر ، أي قتل الأبرياء”.
و مع ذلك ، استمر ذبح الأبرياء لستة سنوات أخرى . حتى عندما تحدّث كامو ، كان الحشد بالخارج غاضبا “من خيانته” للجزائر الفرنسية ، يصرخ بإعدامه . رافضا المغادرة إلى أن ينهي كلامه ، كافح أصدقاءه من أجل سلامته .
وجد كامو بالأيام و الأسابيع التي تلت ، بأن خطابه لم يؤتي أثره على أي من الطرفين ، لم يتحدث أبدا بعدها علنا عن الجزائر – فقد ختم عليه الصمت بموته في حادث سيارة عام 1960 ، ليظلّ الرعب سائدا ببلده الأصلي إلى غاية توقيع اتفاقية إيفيان للسلام بين جبهة التحرير الوطني و فرنسا عام 1962.
ماذا كانت لأهمية خطاب كامو أن تمثل لنا اليوم؟ . لم يقتصر الأمر على فشله في تهديد هدفه المباشر ، بل أن طابع الإرهاب آنذاك و اليوم يبدو مختلفا تماما . لقد كان استخدام جبهة التحرير الوطنية الترهيب أسلوبا تكتيكيا ؛ فمن خلال تفجيراتهم ومجازرهم ، سعت الحركة إلى دفع القمع الفرنسي و بالتالي تطرّف إخوانهم العرب و الأمازيغ . كما أردوا إحباط الأقدام السوداء موضّحين لهم أن لا مستقبل لهم بالجزائر . ما إن تحقّقت أهدافها ، حتى أنهت جبهة التحرير الوطني حملة الترهيب ضد الفرنسين )رغم أنهن استمروا في إرهاب مواطنيهم( . أما بالنسبة للفرنسيين ، فقد انتهى استخدامهم للإرهاب )و التعذيب( أيضا )على الرغم من المحافظين على الجزائر الفرنسية حاولوا مرارا إغتيال شارل ديغول( .
إن جهادي الدولة الإسلامية الذين قتلوا مائة و ثلاثين مدنيا في باريس في الثالث عشر من نوفمبر ، فهم و مع ذلك لم يكونوا متكتكي إرهاب . بالطبع فإن أعمال الإرهاب أداة تجنيد فعّالة بالنسبة للدولة الإسلامية ، لكن بالنسبة للعديد من الشباب و الشابات و الذين ولدوا بالضواحي الساخطة و البعيدة لباريس و بروكسل ، فإن فرصة نشر الرعب ليس لها علاقة كبيرة بتلك الهجمات الجوية على سوريا ، و لا بأحلام إقامة الخلافة التي تمتد من الشرق الأوسط إلى غاية البلقان ؛ فقد تكون بدلا من ذلك شكل من أشكال العدمية1 البسيطة ، و هي غاية على هذا النحو في حد ذاتها .
كان كامو بطبيعة الحال يعلم بأن واجبه الأخلاقي – في إنقاذ الأبرياء – لم يكن بذلك التأثير أكثر ممّا يقوم به وفد من كشافة فتيات مع عدميين . غير أن الإرهابيين ذوي الملابس السوداء في الدولة الإسلامية لم يكونوا جمهوره ؛ كنّا نحن .
فقد أدرك كامو بأن العنف كان يحبك بشكل لا فصام داخل نسيج الحياة اليومية . بالرغم أنه كان مسالما ، فهو كان يعلم أيضا أن العنف كان ضروريا في اللحظات الحرجة إذا أردنا التمسّك بإنسانيتنا . كان هذا الحال نفسه بالنسبة لألمانيا هتلر – فقد تطلّبت هزيمته العنف على نطاق واسع – و السبب في إنخراطه مع المقاومة ؛ )فعند بداية وقت تحرير باريس عام 1944 ، كان كامو رئيس تحرير المجلة السريّة الأكثر نفوذا “كومبا” ، ووجها بارزا ليس فقط بالنسبة لمفهوم الوجودية الفرنسية بل للمقاومة الفرنسية كذلك .
في مخاطبته صديقا ألمانيا وهميا عام 1943 ، من قد أمكنه احتضان الفكر العدمي كما احتضانه للنازية ، مدليا بملاحظته أنه من السهل :”القيام بالعنف ، فهو عندما يبدو الأمر طبيعيا لك أكثر بكثير من التفكير نفسه” …”إنه لجهد عظيم ، و مع ذلك “إنه الاقتتال بيننا في حين أننا نحتقر الحرب” ؛ لقد رأى كامو بوضوح تام مدى فقداننا لإنسانيتنا في مثل هذه اللحظات.
رأى في مقالته المطوّلة “المتمرّد” بضرورة التمييز بين التمرّد و الثورة ، ليكتب أنه على الرغم من قتل الآخرين أمر لا مفر منه في بعض الأحيان ، غير أنه يجب أن لا يصبح أمرا شرعيا . فالمتمرّد الحقيقي رغم إصراره على إنسانيته فإنه لا يفقد أبدا رؤيته لإنسانية الآخرين . فهو لا يقاوم فقط جهود مضطهديه في تجريده من إنسانيته ، بل أيضا ردّ فعله في تجريدهم هم من إنسانيتهم في المقابل .
إنّ ردّة الفعل مثل الثورة تماما ، تأتي بسهولة ، كلاهما يحتقران الحدود و يحتضنان التطرّف بدل ذلك . من ناحية أخرى ، فإن مفهوم التمرّد بالنسبة لكامو “ليس سوى توتّرا كليّا” . كما جاء بافتتاحيته في الأكسبرس أنه من الطبيعي أن يحمل المضطهدون، سواءا كانوا فرنسيين تحت النازيين ، أو جزائريين عرب تحت الفرنسيين ، السلاح باسم العدالة . لكن مثلما “يجب ألاّ يتوقف المرء أبدا عن المطالبة بالعدالة للمضطهدين ، فهناك حدود لا يمكن للمرء بعدها الموافقة على الظلم المرتكب باسمهم” .
بالنسبة إلى كامو فإن التمرّد الحقيقي يستلزم توتّرا ضخما . إنه سريعا ما يتمسّك بمحور الأخلاق ، مقاوما أولئك الذين يسعون الى قمعه طوال الوقت الذي يقاوم فيه ميل الشخص إلى الظلم بدوره . في حين أنه من شبه المستحيل الحفاظ على التوازن ، يجب علينا إلزام أنفسنا إلزاما يختلف عن مهمة *سيزيفوس2، في أن نجعله دائما و فعليا مهمتنا .
و إن كان للوهلة الأولى شيء من التناقض ، إلاّ أن التمرّد يمثّل أفضل فرصة لدينا للتمسك بإنسانيتنا . إن لغة السياسة على جانبي المحيط الأطلسي لا تجرّد بكل مرة فقط خصومنا الحقيقيين من إنسانيتهم ، بل جميع الشعوب التي تتقاسم نفس الدين .
إن وصف الموجة المتزايدة و اليائسة من اللآجئين السوريين “بالغزاة” أو “الهوام” ، أو بالإشارة إلى المسلمين الذين يصلّون في شوارع باريس على أنهم “محتلّين” ، و التحدّث بلهفة عن السجّاد المفجّر للمدن التي تحتلها الدولة الإسلامية أو قصف هذه المناطق حتى تضيء الرمال ليلا ؛ و إعلان جميع المهاجرين المسلمين الى بلادنا أشخاصا غير مرغوب فيهم أو باقتراح بأن نقتل من لهم صلة بقتلة الدولة الإسلامية ، فهذا يعني أننا انتهكنا حدود المقاومة ضد الأفعال اللآإنسانية التي حدّدها كامو .
كان لكامو أن يعترف على الفور بالدولة الإسلامية كعدو باعتبارها كراهية و عدمية تماما كما كانت عليه النازية ، و يجب علينا مكافحتها بعنف . لكن في الوقت نفسه كان ليحذّرنا من أن نفقد الإدراك من نحن و لماذا نقاتل . كتب في نهاية “المتمرّد” بأن منطق المتمرّد يكمن في “خدمة العدالة حتى لا يضاف الظلم الى وضع الإنسان ]و[ الإصرار على نهج لغة واضحة المعالم حتى لا يكثر من عالم الأكاذيب” .
كم هو مشين من ناحية ، الاعتقاد أنه ينبغي للأمر من أن يكون خلاف ذلك ؛ و كم من العبث من ناحية أخرى أن نعتقد أنه يمكن أن يكون بخلاف ما هو عليه الآن . في حين أن هذا التوتّر في نهاية المطاف هو من ألجم كامو الصمت ، فلربما يمكن الآن تحفيز أولئك الذين يسعون الى حكمنا( *أي بالولايات المتحدة) ، بالتبصّر في الواجبات الحقيقية للعدالة و النظر جيدا في الآثار المترتبة على الحياة الواقعية للكلمات التي يختارونها و يستخدمونها إعلاميا .
قد يهمك ايضا :
الدهيشي تؤكّد حرص الكويت على نشر ثقافة القراءة وغرس قيّم القرآن الكريم
"ثقافة بلا حدود" في ندوة متخصّصة ضمن مهرجان "أجيال المستقبل 25"
أرسل تعليقك