الشارقة ـ وكالات
لن يغيب عنا أبداً مشهد شخصية علّول، عندما تتدحرج على خشبة مسرح قصر الثقافة، أول من أمس، بسبب إصابته برصاصة من حارس قصر المدينة،التي لم تقتله، مكتفية بإحداث أنين وجع يحوم في خلايا جسده المليء بالقيم ومبادئ الحق والعدالة والمواطنة، مشكلةً في مسرحية "نهارات علّول" وطناً ضد الرصاص تسلل من نص الكاتب مرعي الحليان، بينما توجت رؤية حسن رجب الإخراجية مشهدية المسرح الإماراتي عربياً وعالمياً تحت مظلة المسرح الحديث بالشارقة. أمسية مسرحية بجدارة، ونص شاعري مدجج برنين الفكر، وصدق ممثلين تماهوا عبر تأصيلهم لأدوات احترافية شكلت رؤية بصرية عالية الدقة.
"أرفعوا رؤوسكم واملأوا من فوقكم الفراغ" إنه صدى صوت علول، وكلماته التي أوصى بها (الحرافيش) الذين يقطنون المدينة، ظل يرددها والرصاصة تجول في جسده، معلناً رفضه لفكرة الموت برصاصة بائسة. وأظهر العرض ضمن أطروحات متعددة جماليات العلاقة بين علّول وحبيبته، وهو الانسجام العفوي والمطلق للشخصيتين وبيان الحميمية بإيحاءات رومانسية اتخذت من البلاغة البصرية مصدراً للشجن والتفاعل بينها وبين المتلقي.
انطوت المسرحية على استخدام مكثف للغة الجسد والإيماءات، فأصابع وأرجل الشخصيات تحدثت بانسيابية، ضمن إسقاطات إضاءة تركزت حولها، وظهر ذلك بوضوح من خلال حديث (الحرافيش)أثناء تساؤلاتهم حول ما حل بـ "علّول"، ورسمت المسرحية عبر تحليل الحرافيش لعدم مقتل علول برصاصة حارس القصر لأسباب تتعلق بشخصية مباركة، تنويهاً إلى قلة الوعي والجهل المتوهم الذي يحتاج إلى صحوة جادة، بيبنما تحفظ بعض متلقي العرض على إيحاءات حسية تداخلت بشكل مباشر مع الطرح، وفضلوا أن تكون ضمن سياق التلميح لا أكثر.
أما الزجاجات الفارغة المستخدمة من قبل الحرافيش، فقد استمدت من حالة خواء المدينة والتهميش، ممثلةً إيقاعاً موسيقياً وازاه العزف على آلة الطنبورة، محققاً التقاء المشاهد والانتقال فيما بينها في أحيان كثيرة. أما السينوغرافيا التي تراوحت بين تقنية خيال الظل وتقنية الأثاث المتحرك، فقد سارت ضمن ثلاث استخدامات للعرض الحيّ وهي: كراسي للجلوس، وسجناً للمحاكمة، وحاويات للقمامة.
بينما جسد الممثلون وبمستويات عالية من الوعي والأداء، حالة من إتقان الزوايا البصرية دون تخصيص ممثل على آخر، عمل جميعهم ضمن نسيج الإبداع الجماعي وأبرزهم الممثل جاسم الخراز الذي مثل دور علّول، والتوقف عند أبعاد هذه الشخصية الفولاذية، يأتي التزاما لأهمية قراءتها فكرياً، فبالرغم من بساطة الطبقة الاجتماعية التي تمثلها، إلا أنها مليئة بالحياة، وجاءت اللياقة العالية للمثل بإيحاءات حملت موضوعية المبالغة وعمق مصداقية الحالة الإنسانية، فقد استمر ذلك الهيجان بينه وبين موضع الرصاصة التي بداخل جسده طوال العرض، دون أن ينسى أو يتجاهل موقعها وحركتها من الصدر إلى الأمعاء والقلب وثم الرأس، مشكلاً رقصة سيريالية للألم.
بماذا كان يفكر مرعي الحليان وهو ينسج خيوط المسرحية؟ ولماذا اتخذ حسن رجب من النص حالة حب وعشق خاصة؟ أسئلة تبحث عن عمق التجربة التراكمية لهذين الممارسين للمسرح. وتراهما أكثر نضجاً في الصياغة المسرحية عبر سلسلة الأحداث، فبعد إصابة علّول بالرصاصة ، يعيش حالة حلم مع حبيبته، هنا تحديداً برز استثمار مسرح العرائس، ملاطفاً الجو المسرحي العام ومقللاً من الحاجة لجيش من الممثلين على الخشبة، وهي التقاطه ذكية، وفي نفس المشهد، أبدعت الممثلة بدور باستفاضة عبر أدائها لدور المرأة والأم، ليستيقظ بعدها علّول على محاكمة اعتبرته متهماً، أما المدعي فهو حارس القصر، مطالبين بإستعادة عُهدتهم وهي الرصاصة، وهنا تصريح مباشر باختلال ميزان العدالة، ليُنطق حكم الإعدام على علّول موتاً بالرصاص، لتأتي النهاية برصاصة ثانية تجول مع الرصاصة الأولى في جسد هذا الشخص دون أن تقتلاه.
احتفت الندوة التطبيقية لمسرحية "نهارات علّول" بالعرض، كونه طرح نوعي ومغاير، وأوضح الممثل غانم السليطي الترابط الفكري المبني على فنية القصة، والذي هو أساس الحرفة المسرحية، منذ عهد المسرح الإغريقي، ولكنها بدت غير مستثمرة في المسرح المعاصر بشكل جيد كما السابق، معتبراً أن العرض مثل معايير الشاعرية في الموضوع، بدءاً من استخدام موسيقى آلة الطنبور المرتبطة بمفاهيم سحر الصوت والشعبية الغارقة لمناطق عديدة في أفريقيا، مروراً بالانسجام العفوي للممثلين، وصولاً إلى جمالية نهاية المسرحية وسر الطلقة الثانية.
أما المخرج المسرحي كريم الرشيد لفت إعجابه بالعرض المحكم الذي بدا واضحاً في الصنعة المسرحية، والبناء الدرامي المتماسك، والسر يكمن باعتقاده في نجاح هذه الفرجة المسرحية عبر قدرتها في إتاحة فرصة لمزيد من الأسئلة الفلسفية، حيث لم يكتف مخرج العرض بالشروط الأساسية، بل توجه إلى الكيفية في صناعة اللغة البصرية الموازية للنص المفخخ بالثراء الفكري والأطروحات المضيئة، ومن خلال القراءة الانطباعية الأولى يصل المتتبع إلى أن ما كتبه المؤلف نابع من حس يسعى لإحداث تفاعل بين الجمهور والخشبة.
اعتبرت الناقدة المسرحية جميلة الزقاي أن النص تناول أوجاع المستضعفين، ممثلاً لوحة كاريكاتيرية تبحث في مصادرة السلطة للحقوق، وأوضحت بجرأة تناول الموضوع الذي امتزج بأسلوب ساخر وفكاهي، آمن فيه النص بأهمية الاعتداد بالنفس، إضافة إلى استشرافه بمستقبل أكثر أملاً وانتصاراً، مشيرة إلى أن المخرج حسن رجب لم يعتمد فقط على التقنية المسرحية في رؤيته، بل عمد كذلك إلى الإخراج السينمائي، في توظيف الإضاءة التي لاقت بعض الهفوات التي لم تنقص من حق العرض.
أرسل تعليقك