لندن - الجزائر اليوم
سجل اللاعب الفرنسي السابق إريك كانتونا 82 هدفاً بقميص مانشستر يونايتد، وقاده للفوز بأربعة ألقاب للدوري الإنجليزي الممتاز والفوز بالثنائية المحلية (الدوري والكأس) مرتين، وكان من الركائز الأساسية لمانشستر يونايتد في أنجح فترة في تاريخ هذا النادي العريق. لكن لم تكن أي من هذه الإنجازات هي الأفضل في مسيرة اللاعب الكروية، حيث يقول كانتونا: «أفضل لحظة في حياتي؟ هناك الكثير من اللحظات الجيدة، لكن اللحظة التي أفضلها هي تلك التي ركلت فيها هذا المشجع المشاغب».
ودائماً ما يشير كانتونا إلى مشجع كريستال بالاس الذي ركله، والذي يدعى ماثيو سيمونز، بازدراء كبير ودائماً ما يصفه بـ«المشاغب»، وهي طريقة يلجأ إليها اللاعب الفرنسي السابق لنزع الطابع الإنساني عن المشجع الذي ركله بقوة كرد منه على العنصرية في كرة القدم في 25 يناير (كانون الثاني) عام 1995. وبعد مرور 25 عاماً، لا تزال تلك اللقطة التي تُظهر كانتونا وهو يركل مشجع كريستال بالاس على طريقة «الكونغ فو» مثالا بارزا على ما وصفه المدير الفني الأسطوري لمانشستر يونايتد السير أليكس فيرغسون بأنه «كاريزما التحدي». لكن «التحدي» الذي أظهره كانتونا في تلك الليلة كان له دور بارز في تشكيل مسيرته الكروية، بل وحياته بشكل عام، بعد ذلك.
وخلال الشوط الأول من تلك المواجهة، كان جمهور كريستال بالاس يتصرف بثقافة «أي ناد يمكنه الفوز علينا إلا مانشستر يونايتد»، كما أصبح لاعبو مانشستر يونايتد، وخاصة كانتونا، هدفاً لما وصفه نجم مانشستر يونايتد السابق روي كين بـ«الرجال المتفرغين بدوام جزئي» لأندية مثل نوريتش سيتي وسويندون وكريستال بالاس. وتعرض لاعبو مانشستر يونايتد لتدخلات عنيفة، خاصة من جانب ريتشارد شو وكريس كولمان على كل من كانتونا وأندي كول، بدون حتى أن يُعاقب هؤلاء اللاعبون، وهو الأمر الذي جعل كانتونا يتوجه لحكم اللقاء، آلان ويكي، ويقول له بكل أدب: «لماذا لا تخرج البطاقات الصفراء إذن؟» كما توجه فيرغسون إلى الحكم بين شوطي المباراة وقال له: «لماذا لا تقوم بعملك السخيف كما ينبغي؟».
وبالفعل قام حكم اللقاء بعمله بعد مرور أربع دقائق من عمر الشوط الثاني، لكنه هذه المرة عاقب كانتونا بإشهار البطاقة الحمراء في وجهه بعد تدخله على شو، وقال معلق المباراة على قناة «بي بي سي»، كلايف تيلدسلي، إن لحظة إشهار البطاقة الحمراء في وجه كانتونا «ستحتل عناوين الصحف في الصباح»، لكنه لم يكن يعلم ما سيحدث بعد ذلك! لقد ظل كانتونا في الملعب لفترة من الوقت قبل أن يُنزل ياقة قميصه التي كان معتاداً أن يرفعها، وكأنه عامل يخلع ملابسه بعد انتهاء عمله، وسار في طريقه بجوار خط التماس مع عامل الطاقم الطبي، نورمان ديفيز، ونعلم جميعا ما حدث بعد ذلك.
لقد صرخ سيمونز في وجه كانتونا قائلاً: «عليك اللعنة أيها الفرنسي، عد إلى فرنسا أيها الحقير»، وهنا ثار النجم الفرنسي وتدخل عليه بكل قوة بطريقة «الكونغ فو». وبعد ذلك، قال كانتونا عن سيمونز: «أنت تعرف، لقد قابلت الآلاف من الأشخاص مثله. لو كنت قد قابلت هذا الرجل في يوم آخر، فربما سارت الأمور بشكل مختلف تماماً حتى لو كان قد قال الأشياء نفسها التي تلفظ بها بالضبط. الحياة غريبة حقا».
وأشار كانتونا أيضاً إلى أنه كان يرغب في أن يمنح الآخرين - في هذه الحالة، جمهور مانشستر يونايتد - قدرا أكبر من التشويق والإثارة. إن ما قام به كانتونا كان عبارة عن حركة غريزية لرغبة في فعل أشياء لم يكن لدى الآخرين الفرصة للقيام بها. وربما كانت أعظم صفة في كانتونا هي أنه كان يفعل ما يشعر به بدون تفكير، ولذلك رأيناه يقوم بهذا الأمر. وقال كانتونا عن ذلك: «أهم شيء بالنسبة لي هو أنني تصرفت بطبيعتي وبتلقائية. لقد عبرت عما يدور بداخلي!» وكان كانتونا هو أعظم لاعب في الدوري الإنجليزي الممتاز في ذلك الوقت، وكان الجميع - ربما باستثناء الحاسدين أو الجاهلين - يدركون أنه لا يوجد لاعب آخر يمتلك شخصية بمثل هذا الثراء والتنوع. وفي موسم 1994 - 1995، تعامل النجم الإنجليزي آلان شيرر مع الضغوط الشديدة للمنافسة على لقب الدوري الإنجليزي الممتاز بركل لوحة الإعلانات المحيطة بالملعب، لكن كانتونا قفز من فوق هذه اللوحة وسدد ضربة على طريقة «الكونغ فو» للمشجع الذي تلفظ بكلمات قاسية بحقه.
لقد كانت هذه اللحظة الثانية الحاسمة في مسيرته مع مانشستر يونايتد، حيث كانت اللحظة الأولى هي انضمامه للشياطين الحمر واللحظة الأخرى هي اعتزاله كرة القدم، وربما يرى آخرون أن هناك لحظات حاسمة أخرى في مسيرة النجم الفرنسي. ويكون معظم لاعبي كرة القدم محظوظين إذا كانت لديهم نقطة مضيئة واحدة في حياتهم الكروية، على عكس كانتونا الذي كانت حياته مليئة بالأحداث واللقطات المضيئة. في الحقيقة، كانت شخصية كانتونا مثل هذا السلوك تماماً تتسم بالتلقائية، وقد نبع هذا السلوك من الصدق غير القابل للتفاوض فيما يتعلق بحياته وطبيعته. وقال اللاعب الإنجليزي السابق غاري نيفيل عن كانتونا: «كان لدى إريك شخصية فريدة من نوعها، وكان يقوم بأشياء لا يتوقعها منه أي شخص».
وبعد تدخل كانتونا على مشجع كريستال بالاس، استؤنفت المباراة وحاول عامل الطاقم الطبي بمانشستر يونايتد، نورمان ديفيز، تهدئة كانتونا الثائر بأكواب من الشاي في غرفة خلع الملابس. لكن ما ينساه البعض أحياناً يتمثل في أن عددا كبيرا من الأشخاص، بما في ذلك فيرغسون والعديد من مشجعي مانشستر يونايتد في ملعب «سيلهرست بارك»، لم يكونوا يعلمون بالضبط ما حدث أو لم يقدّروا إلى أي مدى ستكون تداعيات هذا السلوك من جانب اللاعب الفرنسي. وفي نهاية المباراة، كانت المشاعر الأساسية المسيطرة على مانشستر يونايتد هي الإحباط بسبب خسارة نقطتين في مباراة سهلة أمام فريق ضعيف لكريستال بالاس، حيث تعادل كريستال بالاس بالهدف الذي أحرزه غاريث ساوثغيت بعدما كان مانشستر يونايتد متقدما بهدف من توقيع ديفيد ماي.
وكان فيرغسون مشغولاً للغاية بإعادة تنظيم صفوف مانشستر يونايتد لدرجة أنه لم ير اعتداء كانتونا على مشجع كريستال بالاس، واعتقد المدير الفني الاسكوتلندي أن جمهور كريستال بالاس هو من قام بجذب كانتونا إلى المدرجات بينما كان اللاعب الفرنسي في طريقه للخروج من الملعب. وكانت اللغة المستخدمة من قبل الجميع بعد نهاية المباراة، وحتى من قبل الشرطة، غامضة بشكل كبير. وحتى عندما وصل السير أليكس فيرغسون إلى منزله وأخبره ابنه جيسون بخطورة ما حدث، قرر المدير الفني الاسكوتلندي الذهاب إلى الفراش ومناقشة ذلك الأمر في الصباح. لكن فيرغسون لم يتمكن من النوم وعاد لمشاهدة مقطع فيديو لتلك اللقطة في الساعة الخامسة صباحاً.
وكان رد فعله في البداية يتمثل في ضرورة استغناء مانشستر يونايتد عن اللاعب، وقد وافق مجلس إدارة النادي على ذلك. لكن محامي النادي، موريس واتكينز، نصح مسؤولي النادي بأن مثل هذا القرار يمكن أن يدخل النادي في مشاكل قانونية، لذلك انتظر النادي حتى مساء الخميس التالي لمناقشة هذا الأمر في أحد الفنادق بمدينة مانشستر. وبحلول ذلك الوقت، كان فيرغسون قد قرر بقاء اللاعب والدفاع عنه بكل قوة. وكان كانتونا قد تعرض للإيقاف لنهاية الموسم، مع تعرضه لأقصى غرامة مالية في ذلك الوقت، بقيمة 10.800 جنيه إسترليني.
وكان الجميع في ذلك الوقت يتحدث عن القيم الأخلاقية وضرورة عقاب كانتونا، وتم توجيه انتقادات لاذعة لمانشستر يونايتد لأنه انتظر 36 ساعة لكي يفرض عقوبة على اللاعب الفرنسي. ووصفت صحيفة «الميرور» ما حدث بأنه «الليلة التي ماتت فيها كرة القدم من العار»، مع وضع عنوان على الصفحة الخلفية يقول: «هل هذه هي النهاية لهذا الشخص المجنون؟»، أما العنوان الرئيسي لصحيفة «إكسبريس» فجاء يقول: «بلطجة مطلقة أمام الأطفال». وفي الحقيقة، كان الحديث عن عدم الاكتراث بالأطفال في ذلك الوقت مثيراً للضحك، حيث كانت نشرة الساعة التاسعة على هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، التي كانت قصة كانتونا هي القصة الرئيسية بها، قد أجرت مقابلات شخصية مع عدد من الأطفال وتلاميذ المدارس لمعرفة رأيهم فيما قام به كانتونا! وقال أليكس ستيبني إن السير مات بيسبي كان سيطرد كانتونا من النادي لو كان هو المسؤول عن قيادة الفريق، في حين قال برايان كلوف إنه كان «سيقطع رأسه».
لكن ردود الفعل لم تكن سلبية تماماً. وفي الوقت الذي سارع فيه معظم الصحافيين لانتقاد كانتونا، قال ريتشارد ويليامز، من صحيفة «الإندبندنت»، إن «خطأ إريك كانتونا الوحيد كان التوقف عن ضرب هذا المشجع. وكلما اكتشفنا المزيد عن المشجع سيمونز، بدا اعتداء كانتونا تعبيرا غريزيا عن حكم أخلاقي لا تشوبه شائبة». وقال الصحافي نيك هانكوك إن «هذا كان أفضل شيء قد حدث خلال هذا الموسم. لقد كان شيئا رائعا للغاية». لم يكن لدى معظم اللاعبين أي مشكلة فيما فعله كانتونا. وقال إيان رايت في وقت لاحق إنه شعر بـ«الغيرة» من كانتونا لأنه كان يريد أن يفعل الشيء نفسه.
وسرعان ما أصبح واضحاً أن كانتونا يحظى بدعم كبير للغاية من جمهور مانشستر يونايتد. لقد كان رد الفعل على ما قام به كانتونا - بين مشجعي الأندية الأخرى، وليس فقط جمهور مانشستر يونايتد، مفاجئا للكثيرين. ووقفت شركة «نايكي» إلى جانب كانتونا، وأشارت إلى هذا الحدث في ملصقات وإعلان لا يُنسى اعتذر فيه اللاعب الفرنسي عن «أخطائه الفظيعة» و«سلوكه غير المقبول»، الذي يتمثل في تسجيل هدف واحد فقط في المباراة الشهيرة التي انتهت بفوز مانشستر يونايتد على مانشستر سيتي بخماسية نظيفة، وإهداره فرصة محققة أمام نيوكاسل يونايتد وتسجيل هدفين فقط على ملعب ويمبلي في المباراة النهائية لكأس الاتحاد الإنجليزي عام 1994!.
ربما يمكنكم أن تتخيلوا رد الفعل على إعلان كهذا لو حدث في الوقت الحالي. صحيح أنه كانت هناك هيستيريا في تغطية هذا الحدث في عام 1995، لكن طريقة التغطية كانت مختلفة من صحيفة لأخرى. وفي مذكراته لما حدث في ذلك الموسم، أكد فيرغسون على أن هذه الواقعة قد عرضت 93 مرة على شاشات التلفزيون خلال اليومين التاليين، مضيفاً: «لقد تمت إذاعتها أكثر من إذاعة الأفلام الوثائقية المتعلقة باغتيال الرئيس الأميركي جون كنيدي». لكن لو كان هذا الأمر قد حدث في عام 2020، فربما كان سيعرض 93 مرة في الساعة الواحدة وليس على مدار يومين!
وفي ذلك الوقت، كان من السهل تجنب الجدل الذي من الممكن أن نراه في حال حدوث واقعة مثل هذه في الوقت الحالي، نظراً لأن الأمر كان يقتصر على وجود بعض الصحف والنشرات التلفزيونية والإذاعية ونشرات الأخبار. ورغم أنه كان هناك الكثير من المتصيدين والليبراليين الذين يسممون الأجواء بآرائهم الغريبة، فلم يكن هناك الكثير من النرجسية ولم يكن من السهل غسل العقول بالشكل الموجود الآن. وعلاوة على ذلك، لم تكن هناك وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي لم نر هاشتاغ يقول «العبوا_من_أجل_سيمون، ولم نر عرائض تقدم عبر الإنترنت تطالب بترحيل كانتونا إلى بلاده!».
قد يهمك ايضا :