أصدر مثقفون عراقيون قبل أشهر بياناً نأوا بأنفسهم فيه عن الصراع الطائفي الذي يدور بين أفراد «الطاقم» السياسي، الموزع بين الحكم والمعارضة. في ذلك البيان لم تظهر أية إشارة إلى أن السياسيين الذين يتقاسمون المشهد إنما ينتمون إلى الحاضنة نفسها التي حملها الاحتلال الأميركي معه وزودتها سلطته بكل أسباب الحياة الموقتة. غير أن ما يثير الحيرة والاستفهام وربما الغضب أن ذلك البيان صدر تعليقاً على إصرار مواطني المحافظات ذات الغالبية السنّية على اللجوء إلى الاعتصام السلمي تنديداً بفشل الحكومة في إجراء إصلاحات حقيقية تنهض بالواقع الخدمي من الحضيض الذي هو فيه. وهكذا يكون المثقفون الذين وقعوا البيان قد أقروا بطريقة لا لبس فيها أن المطالب الشعبية التي تتعلق بتحسين ظروف العيش هي تعبير عن حراك طائفي، وهو بالضبط ما تصر الحكومة التي لا تخفي نزعتها الطائفية على تبنيه، إن من خلال سلوكها المباشر أو من خلال نعت كل من يخالفها بالطائفية. بدهاء متحذلق سعى أولئك المثقفون إلى صنع ميزان لمعادلة طرفاها: شعب يطالب بحقه في العيش الكريم والأمن والحياة السوية بما يتناسب وثروات بلده وحكومة فاشلة يمنعها مشروعها الديني الذي اتخذ هيئة حزبية من الالتفات إلى ما تسميه الحياة الدنيوية، من غير أن تكون معنية بتصاعد وتائر الفساد في بلد حاز مرتبة متقدمة في قائمة البلدان الأكثر فساداً في العالم. كان ذلك البيان بمثابة إعلان صريح عن رغبة المثقف العراقي في التخلي عن مسؤولياته الأخلاقية والإنسانية من طريق المساواة بين الشعب والحاكم، باعتبارهما مصدري إزعاج. موقف سلبي متخاذل من هذا النوع يمكن أن يكون مناسبة لتسليط الضوء على شخصية المثقف العراقي، التي يمكن اعتبارها شخصية غير سوية، بسبب طول احتمائها بالضعف والمظلومية والقهر والخوف وتماهيها التاريخي مع غرامها السري في أن تكون مستعبَدة من سلطة أو حزب أو طائفة. كانت الثقافة العراقية طوال نصف القرن الماضي، إلا في ما ندر، ثقافة مؤسسات. بالمعنى الذي يشير إلى أنها كانت ثقافة ريعية. وكانت أيضاً ثقافة عزلة، بالمقدار الذي يجعلها تقيس خطواتها ذاتياً، فما من وجود لنظرة موضوعية تتيح للمثقفين القدرة على قياس أفعالهم بالمقارنة مع أفعال الآخرين. كان الآخر غائباً دائماً. لذلك، نشأت لدى المثقفين العراقيين عقدة تفوّق وهمي. وبالأخص في ما يتعلق بمسألتي الشعر والرسم. فإلى وقت قريب (مَن يدري ربما لا يزال الأمر على حاله) كان العراقيون يعتقدون أنهم أفضل من يكتب الشعر عربياً وأن ريادتهم العربية في الرسم لا تزال ممكنة، بل ومستمرة. في أجواء العزلة التي عاشها العراقيون زمناً طويلاً لم ينتبهوا إلى أن سقف حريتهم كان قد انخفض كثيراً، بل إنه يكاد أن ينطبق عليهم. لم ينتبهوا إلى أن مقداراً عظيماً من كرامتهم كان قد انقرض بتأثير الحروب المتتالية وسنوات الحصار والاحتلال وما تلاها من كوارث. بحرية ناقصة وكرامة مهدورة، هل يمكن الحديث عن مثقف متوازن؟ شهد تاريخ العراق المعاصر، وبالأخص في مرحلة ما بعد احتلاله عام 2003، أهوالاً وفجائع اختض بسببها العالم، غير أن المثقف العراقي لم يرف له جفن. فلم نقرأ على سبيل المثل بياناً لمثقفين عراقيين يندد بجرائم الإبادة الأميركية التي وقعت في الفلوجة أو النجف. لم يقل المثقف العراقي كلمته في الجرائم العلنية التي كانت ترتكبها شركات القتل المستأجرة من الجيش الأميركي، مثل بلاك ووتر وسواها. لقد كان يسيراً على المثقفين العراقيين أن يتوزعوا بين الطوائف لكي يتسنَّى لهم الظهور، باعتبارهم جزءاً من نظام قديم يراد إحياؤه. كان هوسهم في أن يكونوا تابعين لمؤسسة ما، في سلطة أو حزب أو طائفة، لا يهم. ما يهمهم فعلاً أن يكونوا محميين بجدار. المثقف المستقل لم يكن مفهوماً متداولاً حتى بعد سقوط السلطة الشمولية الذي لم يساهم فيه العراقيون. عاش عراقيون عقائديون حياتهم كلها خارج العراق (في بلدان اللجوء) في أجواء أقل ما يقال عنها إنها كانت تتسم بالحرية وبالمقدار اللافت من الكرامة، غير أنهم وقد عادوا بمعية المحتل لم يكن في إمكانهم أن يقولوا شيئاً عن الحرية ولا عن الكرامة. عادوا كما لو أنهم لم يغادروا تلك البلاد التي غرقت في الاستبداد. الخوف نفسه والمظلومية نفسها. كان النظام العراقي السابق الذي حكم العراق طوال خمسة وثلاثين عاماً حرص على تقديم المثقف باعتباره معلم القرية الذي يسخر من ترفه وجبنه وغنجه الريفيون، وهي الصفة التي صار المثقفون العراقيون يتماهون معها. وإلا هل يعقل أن يصدر مثقف عاقل بياناً ضد شعب أعزل قرر أن يذهب إلى الاعتصام دفاعاً عن حقه في العيش؟ أسوأ ما يمكن أن يقوله ذلك المثقف «إنني كنت محايداً» بالنسبة للمثقف فإن الحياد، أياً كانت أسبابه هو بمثابة جريمة. لقد قبل المثقفون العراقيون بوقوع جرائم كثيرة. كانوا شياطينها الخُرس. وما صمتهم عن حروب الأشباح التي يقع بسببها يومياً عشرات الضحايا إلا نوع من ذلك الدور الذي يلعبونه ضد وظيفة المثقف الملتزم.