أتاحت وسائل التواصل الإجتماعي الحديثة طرح اسئلة تتعلق بتلك التعابير والرهانات الثقافية ومدلولاتها بتقنيات ورؤى كتابة النصوص الإبداعية وبنية سرديتها على نحو مغاير لتلك الاساليب المعهودة في سفر الثقافة العربية .
وفي هذا السياق قال الكاتب والباحث كايد هاشم مساعد الأمين العام لمنتدى الفكر العربي ان النصّ يظل في أوليات الثقافة شكلاً مادياً تعبيرياً عن الثابت والمتحوّل في الفكر والمجتمع ومعطياته وأزماته، لكن لهذا الشكل طاقة عالية على حمل شحنات التحول وما قد يحدثه من صدمات في الوعي الجمعيّ ، وإعطاء هذا الوعي القدرة العملية على التعامل مع ثوابت في الواقع الإنساني من صنع البشر لا من سنن التطور في الكون..
هذه العلاقة بين مثلث الفكر والنصّ والوعي لا تكتمل إلاَّ في بيئة من عوامل مسنودة بقوى مادية على الأرض ، قادرة على تحقيق فعل التبادلية الإيجابي التحول بين أضلاع هذا المثلث كما اضاف لوكالة الانباء الاردنية ( بترا ) .
واعتبر ان الأزمة الكبرى في الثقافة العربية منذ صدمة الحداثة الأولى في القرن التاسع عشر، تتمثل في التمكين لسلطة النص الظاهري والتشبث بثباته الشكلي ليتسنى تأويله وفق أغراض قوى مستقطبة دأبت بكل إمكاناتها على عزل الفكر الحداثي التنويري ومحاربته وتسطيحه وانتحال دوره وتشويه آليات عمله، وبالتالي إضعاف قوته التعبيرية والتأثيرية، وتشتيت تكامل المفاهيم أو المضمون المتماسك في الوعي، واستيراد مفاهيم تخدم مصالحها المادية وبثها.
واكد الباحث هاشم أن تاريخ الثقافة العربية لم يشهد التحولات الكبرى إلا حينما كانت القوى المادية للدولة العربية قادرة على أن تؤدي دورها، وتستثمر عمقها الثقافي والحضاري برؤية واضحة لتعزيز قوتها وتأثيرها على مختلف الصعُد . وقال الكاتب والباحث والمترجم من المغرب، عضو الاكاديمية الإسبانية- الاميركية للآداب والعلوم في كولومبيا محمد الخطابي ان الحديث عن الثابت والمتحوّل، أو الأصيل والدخيل، أو الوافد والتليد، فى ثقافتنا العربية موضوع سال من أجله مداد غزير، فهناك من يتشبّث بالأصول لا يرضى بها أو لها بديلا بذريعة حفظ الهويّة والجذور، وهناك من يعانق كلّ جديد وافد كسمة على الإنفتاح والتطوّر والتحديث والعصرنة بمعانيها الواسعة، وهناك من يحاول الجمع ، أو التقريب بين هذين التيارين اللذين يبدوان للوهلة الأولى وكأنّهما يقومان على طرفي نقيض.
وينطبق هذا وفقا له على مختلف مجالات الفكر والثقافة والآداب والعلوم والشعر واللغة ومعظم المجالات والمفاهيم، والسلوكيات التي أضحت تتحكّم فى حياتنا العصرية .
وتوقف الخطابي فى هذا المجال عند كلمة الأدب بالذّات على سبيل المثال كنموذج للتطوّر واالتحوّل اللذين تشهدهما اللغة نفسها، والكلمات والألفاظ التي تتالّف منها ، فقد صار معنى كلمة ( الأدب) يكتسب فى كلّ عصر مفاهيم جديدة لم يكن يعنيها من قبل ، وهي من المصطلحات التي دارت حولها مناقشات عدّة , وهذا ما أكّده جهابذة الدارسين والمدرّسين للأدب العربي، والنقد الأدبي بشكل مباشر فى حلقات الدّرس بكلية الآداب بجامعة عين شمس أمثال الدكتور مصطفى عكاشة، والدكتور عبد القادر القطّ , فهذه الكلمة عرفت ثلاث مراحل أو أطوار لغوية، ففي الجاهلية إستعملت في كلامهم شعرًا ونثرًا بمعنى الدعوة إلى الطعام ، ويستدلّ المؤرخون القدماء على ذلك بقول طرفة بن العبد : نحن في المشتاةِ نَدْعُو الجَفَلَى.. لاتــرى الآدِب فينا يَنْتَقِر، " إنك لا ترى الدّاعي فينا إلى الطعام يخصّ شخصا دون آخر" ، ومنها اشتقوا كلمة ( أدب – يأدٌب ) بمعنى أعدّ طعامًا ، كما إشتقت منها كلمة (المأدبة ) وهي الوليمة .
الدكتورة أماني جرار قالت : تبرز امام الثابت مشكلة ترسيخ قيم التفاهم والتسامح وقبول الاخر, ومع تأكيد الخصوصية الثقافية للمكونات المجتمعية للعرب نجد ان الثقافة تشكل الاساس في التنمية الشاملة للشعوب والمجتمعات , ويبقى الهدف المنشود هو تنشيط المبادرات الخلاقة وتنمية الرصيد الثقافي والقدرات الابداعية والمخزون الفكري عند توظيف الابعاد الحضارية والجمالية والفنية للثابت من خلال تفاعلات المتغير , وكل ذلك من أجل الوصول الى فضاءات اكثر انفتاحا ، فالتغيير الثقافي لا بد ان يتأتى برؤية انسانية .
ووفق جرار فالثابت قائم على النص ، هكذا يراه المفكر أدونيس ، ليمثل سلطة معرفية مسبقة ، اما المتحول فهو ذلك الفكر الذي ينهض من خلال التأويل ، وهو يعني امكانية التكيف , ولا غنى لنا عن ظهور انقلاب معرفي منظومي وتفعيل حدود العقل من اجل مواجهة صدمة الحداثة والتطوير .
وقال الروائي والشاعر الليبي مصطفى حمودة ان البنية الهيكلية للنص تغيّرت, تأثراً بنصوص الغرب، وانسجاماً مع عصرٍ مغاير، ذاب فيه نمط الحياة التقليدي أمام سطوة طغيان النمط الرقمي، عصر تجدّدت فيه الكتابة بما يتواءم مع التطوّر المتسارع.
واضاف ان الأشكال الكلاسيكية للنصوص لم تعد تستجيب لواقع الحال المفروض في الانفتاح الكوني وتلاشي الحدود ، وأخذ هنا الشعر كمثال باعتباره الفن الجامع لكل صنوف الأدب، حيث نجده يفقد بريقه الذي كان، ولم تعد له تلك القيمة التي جعلته في سالف الزمان يتبوأ المكانة العليا ، اذ بدأ يخسر مكانته أمام الأجناس الكتابية الأخرى , وفقا له.
وقال حمودة لم يعد النص الحديث وعاءً للغة، أو بمعنى آخر الذاكرة , الذاكرة التي يمكننا الاعتماد عليها في تخليد تراثنا اللغوي المكتوب والمنطوق، نظرا لما آلت إليه النصوص من أخطاء قاتلة في حق لغتنا العربية.
وقال الشاعر والناقد مهدي نصير ان الثابت والمتحوِّل في الإبداع الفني والأدبي قضيّة جدلية وخلافية , فالتَحول والتّغير هما سِمةُ الإبداع الحقيقي , لكن في التجلِّي التاريخي للأدب والثقافة هناك عناصر تبقى موجودةً وتدافعُ عن حضورها الثابت الذي يُراكمُ كماً ثقافياً ولا يُراكمُ تحوُّلاً إبداعيَّاً نوعيَّاً , لذلك فالتحوُّلُ كان دائماً سِمةً للجديدِ المُبدع , والثابتُ كان سِمةً للنصِّ المُكرَّر الذي لا يضيف جديداً ويُعيدُ إنتاجَ النصوصِ السابقة ويراكمُ كمَّاً مُستّقرَّاً لا جديدَ فيه .
واكد ان الثابت والمتحوِّل ليسَ سِمة زمنية , فقد تجدُ نصوصاً قديمةُ ما زالت تمتلكُ القدرة على الجدل والتحوُّل , وسنجدُ كثيراً من النصوصِ المعاصرة في كلِّ مجالات الكتابةِ الإبداعية ثابتةً وجامدةً ومكرَّرةً وغيرَ قادرةٍ على الجدلِ مع التاريخ والحياة وربَّما كان أعمقَ من قرأ هذه السِّمةَ في التاريخ العربي هو أدونيس في كتابه ( الثابت والمتحول : الإتِّباع والإبداع عند العرب ) وهو بحثٌ عميق في تجلِّيات الإتِّباع والإبداع في التاريخ والثقافة والفكر العربي .
وقال نصير "اننا نجد في النصِّ الإبداعي العربي المعاصر ان التحوُّلَ الدائمَ سِمةً للنصِّ العالي , اذ نجد ذلكَ عند محمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف وغيرهم من المبدعين الباحثين عن التعبير العميق عن ذاتهم في جدلها مع التاريخ والواقع بتحوُّلاته المتسارعة , جدلُ هذه الذات الذي يجب عليه أن يتسارعَ أيضاً ليواجهَ ويستوعبَ ثقافةً عالميةً طاغيةً جبَّارةً وتتحوُّلُ بوتيرةٍ يصعب التنبؤ باتجاهاتها ومناخاتها" .
وقالت الروائية اليمنية شذى الخطيب ان دخول التقنية الحديثة بأجهزتها وتواصلها جذبت القارئ وملأت وقت فراغه الذي كان يقضيه قديما بالقراءة , فقل اهتمام الانسان بالقراءة بل اتعبت بصره وارهقته .
واكدت ان الرواية قديما كانت تتميز بطول صفحاتها التي تتجاوز الثلاثمئة صفحة بالإضافة الى ان هناك روايات تميزت بالأجزاء كالثلاثية لنجيب محفوظ ، والبؤساء وغيرها بسرد تاريخي عن واقع تعيشه الشخصيات بكل سلوكياتها وعاداتها وأخلاقياتها والتحدث عن حقبة سياسية اجتماعية مفصلة بل تكون مرجعا تاريخيا للكثير من الأحداث كالحروب والاجواء الاجتماعية والسياسية والصحية التي كانت تحيط بها , وكان القارئ يستغرق بقراءة سرد مكثف وحوار طويل بين الشخصيات فيه يسقط الكاتب اراءه الشخصية على لسان الشخصيات , وتدور الرواية حول شخصية معينة لتحتل اكبر مساحة من الاحداث ووصف الاماكن بدقة ووصف بقية الشخصيات .
وقالت الخطيب ان بعض كتاب الرواية الحديثة ما زالوا يعتمدون على أن زيادة عدد الصفحات وسيلة لأهميتها ،فرواية العائد إلى حيفا لغسان كنفاني لم تتجاوز الخمسين صفحة وهي عظيمة بكلمات بسيطة ووصف متقن استطاعت أن تصبح من اهم الروايات العربية , فالزيادة توقع الكاتب في التكرار والملل والوصف الخارج عن هدف الرواية ما يضيع القارئ ويشتته , والكثير من الروايات الحديثة هي مجرد طرح افكار وجمل دون هدف أو قضية مع اطالة في السرد والتعبير الذاتي برتابة .
وتحدث الناقد العراقي داود سلمان الشويلي عن (الذائقة) من وجهة نظر الثابت والمتحول في حياتنا الادبية ، خاصة الشعرية منها مؤكدا ان الذائقة الشعرية اذا لم تمتلك ثابتا سيكون مصيرها العشوائية والتخبط ، واذا لم تمتلك متحولا فانها ستعيش حالة من التجمد السلبي ، ومن ثم الموت ، لهذا يجب عليها ان تمتلك الحالتين معا وفي حالة اتزان .
وأكد ان الذائقة الشعرية في يومنا هذا مبتعدة عن القضايا الكبرى المطروحة ، وراحت تقدم اليومي من هذه القضايا ، ان كان ذلك في الخبر، او الصورة الفوتوغرافية او الأغنية ... الخ ، ولا اقصد باليومي هو الذي من خلاله الانطلاق الى القضايا الكبرى.
وقال : سيبقى مثل هذا الصراع مستمرا ، وبمرور الزمن يتحول هذا الجديد الى ثابت يحاول البعض المحافظة عليه ، فيما يخرج البعض من رحمه ، او من خارجه ليبحث عن المتحول الجديد .
ونوه "بان (ابو نواس ) خرج من رحم الشعر العربي في زمن العباسيين وغادر البكاء على الاطلال ، وخرج ( ابو تمام ) على الشعر العربي وكتب قصيدة الفكرة ، وخرجت مدرسة ابولو ، وشعراء المهجر، على الشعر العربي ، وخرج السياب فكتب مع جماعته قصيدة التفعيلة ، وخرج شعراء قصيدة النثر على الاثنين ، القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة , هكذا تستمر الذائقة الشعرية في الخروج على الثابت ولاسباب لا مجال لذكرها هنا".