تشكل الصورة النمطية لمثقف يرتاد المقهى وهو يقرأ جريدته ببساطة محتوياتها وتلقائية حضورها، ملمحاً رومانسياً متأصلاً في ذاكرة العديد من المواطنين، وسجّل التاريخ العديد من الأسماء التي تحملها المقاهي في ذاكرتها أمثال: بدر شاكر السياب ومظفر النواب، فيما كان يعتبر سارتر وسيمون دي بوفوار المقهى أحد أهم الأماكن التي تحفزهم على الكتابة. المقهى... هذه الصورة ذات الفضاء المفتوح الذي أشعل (فتيلة) الإبداع وكان ملهماً للروائيين والأدباء والسياسيين، فماذا تبقى من هذه الصورة؟!.. الثقافة ومقاهي الشام امتازت مقاهي الشام (الهافانا، الروضة، البرازيل، الفاروق، وغيرها) بروادها من الأدباء والمثقفين والفنانين والشعراء كزكريا تامر، مظفر النواب، أدونيس، حنا مينة، محمد الماغوط، هاني الراهب وغيرهم من المبدعين. وتمتلك هذه المقاهي ذاكرة ثقافية طويلة أثرت في حركة الثقافة بشكل فاعل، حيث كانت تعتبرها الطبقة المثقفة ملاذاً فكرياً وثقافياً، تطرح فيه الأفكار والآراء وآخر أخبار الأدب والشعر والثقافة، وطالما صنفوها بأنها المكان الأمثل للتباحث والتداول في هذه الشؤون، كما اتخذها العديد من المبدعين مكاناً أساسياً لرصد حركة الشارع، ومثلت المحرض الأول لمخيلتهم الأدبية والمنهل الأساسي لاستقاء قصصهم، فيما اعتبرها آخرون المكان الأفضل لممارسة القراءة والمطالعة. حضور واسع في الرواية العربية ويشكل المقهى بالنسبة للروائي مادةً أساسية في نتاجه الأدبي ومكاناً مستباحاً لبناء رواياته وتجسيد أحداثها، بل وفي أحيان كثيرة يعتبره فرصة كبيرة لالتقاط الشخصيات وتوظيفها في عمل الروائي، حيث اشتهر الكثير من الأدباء العرب الذين اعتمدوا المقهى مرجعاً أساسياً لإبداعهم الروائي، فنجد أن الكاتب المصري نجيب محفوظ وجد في مقهى (زقاق المدق) مكاناً خلق منه روايته التي تحمل نفس الاسم، وكذلك في رواية (الكرنك) عبر مقهى (عرابي)، فيما اعتمد الكاتب السوري فواز حداد مقهى (الهافانا، والروضة) مكانين أساسيين تدور فيهما أغلب أحداث رواياته وخاصةً (مشهد عابر، ومرسال الغرام)، واعتمد الكاتب الراحل هاني الراهب المقهى مكاناً أساسياً تدور فيه شخصياته في رواياته (الزمن الموحش) و (شرخ في تاريخ طويل) و (ألف ليلة وليلتان)، كما كان حضور المقهى واضحاً أيضاً في روايات وقصص حنا مينة وزكريا تامر. وحضور مختلف في الشعر حضور المقهى في الشعر العربي كان مختلفاً عن الرواية، فلم يكن استخدام المقهى في البناء الشعري كبيراً رغم وجوده خاصة في شعر الراحل نزار قباني، ولكن الاستخدام كان للمقهى مكاناً لإلقاء الشعر ومنبراً معتمداً لدى الشعراء لتقديم نتاجهم على الجمهور المثقف، حيث كانت تعد الأمسيات والملتقيات الشعرية في المقاهي الأدبية، ولم يقتصر المقهى طقساً كان أو مكاناً، ملهماً للإبداع أو محفزاً للتميز على الشعر أو الراوية بل امتد ليشمل أكثر القوالب الأدبية والفنية. اختلاف المفهوم شهدت السنوات الماضية اختلافاً جوهرياً في العلاقة بين المثقف والمقهى، فبعد أن كان يعتبر المقهى ملهماً للإبداع، أصبحت ظاهرة ارتياد المقاهي استعراضية واستهلاكية، فأضحى الظهور في المقهى يهدف لتسويق الذات وجلب الأنظار فضلاً عن المكاسب الشخصية والمصالح الذاتية التي يكتسبها (المثقف) من تواجده في هذه الأماكن، إضافة لتحول الجلسات (الثقافية) لجلسات لتداول النمائم والشائعات، ومكاناً معتمداً للثرثرة وإضاعة الوقت والتسلية (لعب الورق والنرد ومشاهدة المباريات وحل الكلمات المتقاطعة)، ورغم وجود هذه العادات في تاريخ المقهى على مدار تاريخه، ولكن غالباً ما كان المثقف والأديب يلعب دور المراقب والمتأمل في شخصيات الواقع تلك لتحويلها إلى مادة إبداعية، إلا أنه في الفترة الأخيرة انقلب هو ذاته إلى مادة للتأمل، واستطاع المقهى بزبائنه الشعبيين أن يحول المثقف إلى واحد منهم، لينتقل من دور المراقب إلى دور المشارك. مقاهي الشام من الأدب إلى السياحة فقدت مقاهي الشام العريقة (الهافانا، الروضة، البرازيل) مفهومها الإبداعي وطقسها الأدبي وتحولت إلى مقاهي سياحية بجدارة، بدايةً بانفضاض أغلب المبدعين عن ارتيادها مروراً بفقدانها لطابعها الشعبي وانتهاءً بأسعارها (الخمس نجوم)، حيث بات جو المقاهي الذي كان يتسم بالألفة جواً مليئاً  بالكآبة والقلق، وتحولت هذه الأماكن التي كانت تعج بالمثقفين والساسة من كل الأطياف إلى أماكن مليئة بمرتادين هدفهم الأول والأخير تمضية الوقت والتسلية، فهل يمكن اعتبار ذلك مؤشراً على تدني مستوى الحياة الثقافية، وهل تراجع القراءة مثلاً شكّل عند الأديب نفوراً من تعاطي الكتابة لعدم ثقته بأن ما يكتبه سوف يقرأ؟!. وهل الحياة الحديثة بنزعاتها الاستهلاكية هي التي حولت المثقف والمكان الثقافي إلى حالة عادية تشكو من الضجر والملل؟، ليلجأ المثقف إلى إضاعة الوقت عبر المقهى بدلاً من استثماره بالإبداع؟!!.