الجزائر - الجزائر اليوم
غالبا ما تتسم رسائل الأدباء بالبساطة والتلقائية والصدق، وهي السمات التي قد لا تتوفر في سيرهم الذاتية، إذ يعمد الكاتب من خلال سيرته المكتوبة، إلى تصدير الصورة التي يريد إلى قارئه، أما حينما يبوح إلى صديق من خلال رسالة، فالأمر يصبح شخصيا وسريا تماما، يصبح شبيها بالتعري في غرفة تخصك، بعيدا عن أعين الرقباء والمتطفلين.
أدرك إرنست هيمنغواي الفرق بين كتابة الأديب عن ذاته وتعريته لها في اليوميات والرسائل، فثمة فارق بين أن يكتب عن نفسه كما في "وليمة متنقلة"، أو أن يبوح بمكنون النفس في رسالة لصديق أو حبيبة، فكان حريصا على أن تبقى خاصة بينه وبين المرسل إليه، لذا اعتاد أن ينهي رسائله لأمه بقوله "لا تقرئي هذا الكلام على أي شخص"، وفي رسالة أخرى كتب لها عن صحافية تعد مقالا عن فترة شبابه، وهدد الأم إن تعاونت معها "أظن، سيكون موقفا سيئا جدا، أن أتوقف عن مواصلة المساهمة في تأمين حاجياتك في حالة نشرهم لمقالة من هذا النوع دون موافقتي".
وقد كتب هيمنغواي قبل وفاته في رسالة موجهة إلى القائمين على تنفيذ وصيته "أتمنى ألا تنشر الرسائل التي كتبتها في حياتي. وأطلب منكم عدم نشر أي من هذه الرسائل أو الموافقة على نشرها".
لكن تلك الوصية لم يلتزم بها أحد، فنشرت رسائله، وأصدرت إحدى المؤسسات الرسائل كاملة في سبعة عشر مجلدا، ومن أهم الكتب التي صدرت عن رسائله "إرنست هيمنغواي، رسائل مختارة، 1917 ـ 1961"، الذي أصدره كاروس بيكر في ألف صفحة، وبيكر الذي اشتهر بالسيرة التي كتبها عن هيمنجواي، بدأ هذه المجموعة من الرسائل في أغسطس 1917، بعد إتمام الدراسة الثانوية، وتنتهي قبل وفاته بأيام، وهي المجموعة التي اختار منها الدكتور عبدالمقصود عبدالكريم الرسائل التي ترجمها وأصدرتها مؤخرا، دار "آفاق" بالقاهرة في مجلدين، وفي مقدمتها يخاطب المترجم هيمنغواي بقوله "أرجو أن تغفر لي زلاتي، وأن تسامحني على أنني نقلْتُ إلى لغة لا تعرفها ما أوصيت أهلك بعدم نشره حيا أو ميتا".
كان هيمنغواي من هواة كتابة الرسائل منذ طفولته، وحتى قبيل وفاته، وتمكن الباحثون من جمع حوالي سبعة آلاف رسالة بخط يده أو مرقومة على الآلة الكاتبة، وكان يكتب الرسائل بشكل شبه يومي، وبالرغم من ذلك، كان يعتقد أن أفضل الكُتَّاب يكتبون أسوأ الرسائل، وكان يقول، إنه إذا كتب في أي وقت رسالة جيدة، فهذا يعني أنه لا يعمل، ووصف رسائله بأنها بذيئة، بما يفسر وصاياه المتكررة بعدم نشرها، لكن من يقرأها قد يكتشف سببا آخر، فالرسائل تكشف عن وجه آخر لهيمنغواي، أو ربما تسقط القناع عن وجهه الحقيقي، فيظهر المحارب القوي رقيقا هشا يبكي لموت قطته التي رافقته لأحد عشر عاما.
تعرض إرنست هيمنغواي للموت مرات كثيرة، وكان يفلت منه دائما، لعل أشهرها في عام 1953، حينما سقطت الطائرة التي كان يستقلها في كينيا، وكان مسافرا في رحلة صيد، فأُصيب بكسور، لكنه خرج من الغابة حاملا عنقودا من الموز، وهو يقول "هذه هي الحياة، المصاعب طريقنا إلى النجاة".
لكنه بعد سبع سنوات، يذهب بنفسه إلى حتفه، ففي مساء السبت، تناول هيمنغواي وماري وجورج براون العشاء في أحد المطاعم وانصرفا مبكرا. وفي صباح الأحد، استيقظ هيمنغواي قبل السابعة، واختار بندقية بماسورة مزدوجة من على الرف، وحملها إلى الدور العلوي، ووضع في البندقية خرطوشتين، ووضع مؤخرة البندقية على الأرض، وضغط بجبهته على الماسورتين وفجر رأسه.
يستعيد عبدالمقصود عبدالكريم في مقدمة ترجمته للرسائل، هذا المشهد المأساوي كما تخيله الرواة، لم يذكر أحدهم شيئا مما حدث بين تناول العشاء والاستيقاظ، حتى زوجته التي هرعت إليه بعدما سمعت صوت الرصاصة، لتجده غارقا في دمائه، تصر على أن انطلاق الرصاصة من فوهة البندقية كان قضاء وقدرا، ولم يكن انتحارا، وكان هيمنغواي قد حاول الانتحار كثيرا ولم ينجح إلا في المحاولة الخامسة، فقد كانت لديه ميول انتحارية نتيجة إصابته بالاكتئاب الشديد.
هكذا انتهت حياة حافلة بدأت يوم 21 يوليو 1899، فلعل المتع كانت قد انقضت، كما أوحت رسائله، وعموما كان إرنست مهووسا بفكرة الموت، وقد اعترف بذلك في رسالة لزوجته الثانية، قائلا "أعتقد أنني سأبقى راغبا في الموت دائما"، ويبدو أن ذلك الهوس بالموت يرجع لأسباب وراثية، إذ انتحر والده بإطلاق الرصاص على نفسه، وكذلك انتحرت شقيقتاه.
قد يهمك ايضا :
مليكة بن دودة تعزي عائلة الأديب والشاعر عياش يحياوي
ابن الزهراء الجزائري يُؤكِّد أنّ "لوكيوس" تهدف إلى النهوض بالعمل الدرامي