مدريد - العرب اليوم
خرج حوالى مليون إسباني في مدريد مؤخراً في مسيرة صاخبة لإعلان تأكيد وحدة المملكة الإيبيرية، وللاحتجاج على استفتاء الانفصال الذي عاشته برشلونة عاصمة إقليم كاتالونيا، والذي جلب بدوره ملايين المتعاطفين من داخل الإقليم وخارجه، في بلد قريب من العالم العربي ومنقسم بين راغب في الوحدة وساعٍ إلى الانشقاق.
ويعتقد محللون أن توقيت هذه الأزمة الانفصالية "لا يصبّ في مصلحة الاقتصاد الإسباني، الذي بدأ يتعافى من فترات عجاف صعبة امتدت نحو 10 سنوات. وتركت جراحاً في جسم جيل كامل من الإسبان عايش الانكماش الاقتصادي والتقشف المالي، وبطالة شبه عامة للشباب وهجرة وفقدان العمل، والأمل لمَن كان يعمل ويملك بيتاً أو متجراً".
وأعلن صندوق النقد الدولي في مذكرة الأسبوع الماضي، أن إسبانيا «تمثل قصة نجاح في القارة الأوروبية لأنها استطاعت الخروج من الأزمة بأقل الخسائر، وحققت نتائج جيدة في مجالات كان الرهان عليها مستحيلاً قبل سنوات». وأشار إلى أن مدريد «نجحت في استعادة النمو الذي بلغ 3.3 في المئة في النصف الأول من هذه السنة، أي ضعف المعدل المسجل في دول منطقة اليورو الأخرى. كما استطاعت التغلب على عجز ميزان المدفوعات الخارجي الذي حقق فائضاً بلغ نحو 2 في المئة من الناتج المحلي، بعد تسجيل عجز نسبته 10 في المئة عام 2007».
ورصد «تراجعاً في عجز الموازنة العامة إلى 3 في المئة فقط، بعدما كانت الدولة على شفا الإفلاس المالي قبل عقد من الزمن، وبذلك لن تعد إسبانيا خاضعة لإجراءات المراقبة الأوروبية على الموازنة الحكومية بدءاً من العام المقبل، في أفضل وضع منذ العام 2009».
وفي مجال العمل، تمكّنت مدريد من خفض معدلات البطالة إلى ما بين 17 من 27 في المئة، يومذاك قرر آلاف الإسبان الهجرة إلى ألمانيا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة وكندا وحتى إلى المغرب المكسيك والأرجنتين. وتشير الإحصاءات إلى أن حوالى 10 آلاف إسباني انتقلوا إلى العمل والعيش في المغرب خلال الأزمة، واستقر بعضهم وقرروا البقاء.
تحديات المستقبل
لكن هذه النتائج على أهميتها، لا تخفي حقائق مقلقة حول مستقبل إسبانيا السياسي والاقتصادي، إذ لم يسترجع البلد بعد عافيته الاقتصادية والمالية والإنتاجية كاملة، وسيؤثر انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الاقتصاد الإسباني وتدفق الاستثمارات والسياحة، وربما يفجر الخلاف حول مستقبل جبل طارق ووضعها داخل الاتحاد. وتُضاف المديونية المرتفعة المقدرة بـ1.2 تريليون يورو إلى لائحة الصعوبات الإسبانية التي سترهق الأجيال المقبلة لعقود طويلة. ويبدو الاتحاد الأوروبي الذي كان طوق النجاة قبل سنوات، انكمش إلى سوق تجارية وسياحية وتحالف ألماني - فرنسي، مع أدوار هامشية لإيطاليا وإسبانيا وبروكسيل.
ولا تبدو شبه القارة الإيبيرية حالياً جاذبة للاستثمارات الأجنبية بسبب الأوضاع الجديدة في إقليم كاتالونيا، كما أن سوق العمل تبقى هشة إذ تضم مهناً موسمية أو غير قارة وأقل تنافسية خارجية، في ظل تحسّن الوضع الاقتصادي في جنوب المتوسط بعد «الربيع العربي»، وانفتاح المغرب على السوق الأفريقية في التجارة والاستثمار ودوره الجديد في القارة السمراء، وتراجع دور الاتحاد الأوروبي إقليمياً.
أمام هذا الوضع، لا يمكن مدريد أن تعيش من دون وحدتها الجغرافية وبكل أقاليمها ومحافظاتها، على رغم تعدد الثقافات. ويساهم إقليم كاتالونيا في 20 في المئة من الناتج الإسباني أي ما قيمته 220 بليون دولار، ما يساوي اقتصادي الجزائر وتونس. ويبلغ سكان الإقليم 7.5 مليون نسمة أي نحو 16 في المئة من العدد الإجمالي، ويبلغ الدخل الفردي 30 ألف يورو سنوياً في مقابل 23 ألفاً في المناطق الإسبانية الأخرى. وكثيراً ما أطلق على كاتالونيا اسم كاليفورنيا أوروبا، لوجود الشمس والبحر والسياحة والحرية والإبداع والصناعة والمصارف والخدمات، والبحث العلمي ومقار الشركات العالمية وغيرها من الامتيازات، وكلها غير متوافرة في أقاليم أخرى.
وقيل إن برشلونة لو كانت دولة، لكانت في المرتبة 12 في الاتحاد الأوروبي قبل كل دول شرق أوروبا، والتاسعة في الدخل الفردي خلف دول اسكندنافيا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا. لكن غنى المنطقة في مقابل فقر مناطق أخرى لا يعفيها من أعباء مالية واقتصادية صعبة، تعاكس طموح الانفصال. تشير الإحصاءات إلى أن الجزء الأكبر من ديون مدريد مستحقة على حكومة كاتالونيا، كما أن صعوبات استرداد الديون الهالكة موجودة في الإقليم، ونسبتها نحو 8.5 من سيولة النظام المصرفي، وبذلك فإن إسبانيا تحتاج إلى كل طاقاتها لتسديد ديون تتجاوز 100 في المئة من الناتج الإجمالي، والتغلب على بطالة الشباب الأعلى في كل دول الاتحاد الأوروبي، وفتح باب الأمل أمام الطبقات الوسطى التي افترستها الأزمة الاقتصادية، واستعادة جاذبيتها الاستثمارية والسياحية والثقافية كبلد متعدد العرق والحضارة من الأندلس العربية إلى جبال البرانس القشتالية، وما بينهما من جبال وأنهار وصحارى وسهول، وتاريخ مشترك مدوّن بلغات البحر الأبيض المتوسط الحديثة والقديمة.