مصرف سورية المركزي

شرح الدكتور حاكم مصرف سورية المركزي دريد درغام رؤيته الخاصة لإنقاذ الاقتصاد السوري المنهار بسبب الحرب والخطوات المفترض تطبيقها للخروج من الأمة الحالية، وذلك بشكل غير رسمي عبر نشرها على صفحته الخاصة في موقع "فيسبوك".

وقال درغام إنه من المستغرب الحديث عن إعادة الإعمار في وسط الحرب، مؤكدا أن المصاعب الحقيقية تبدأ عند انتهاء الحروب وليس قبلها . مشيرا إلى تجارب الدول المجاورة وأن انتهاء حروبها لم يؤد إلى الانتعاش الاقتصادي العادل الذي حلم به الجميع (لبنان والعراق أمثلة واضحة)، ولا بد من حلول مناسبة لطمأنة الأجيال الحالية والقادمة، وهذا ما يتطلب مجموعة قليلة من الأهداف يمكن من خلالها تحريك القطاعات المتبقية بما يضمن العيش الكريم للسوريين، وكلما تأخر تطبيق حلول جذرية بالإمكانات المادية المتاحة تفاقمت المشكلات وأصبحت تكلفة معالجتها أكثر فداحة.

وأكد درغام  أن  ظروف الحرب الحالية تتطلب الحديث عن إجراءات تم تنفيذها بدلًا من حملات إعلامية عن نوايا لا تنفذ، ويتطلب الأمر خطة استباقية وليس علاجية، وبمحاور قليلة ومحددة تقنع السوريين بأهمية التكافل، وإلا سيكون انفجار اللغم الاقتصادي هو الأخطر.  ويفترض بالتغييرات أن تتناول قطاعات محددة قادرة على إحداث تغييرات لاحقة في غيرها من القطاعات. ومن هذه التغييرات ذكر درغام وجوبها في السياسات الضريبية؛ إذ رأى أنه لا يمكن في الظروف الحالية المطالبة، أو الاكتفاء برفع نسب الضرائب، أو الاعتقاد بأن المشكلة تكمن في إزالة الدعم.

وبالمقارنة مع تجارب الدول الأخرى في إدارة اقتصاد الحروب، نجد أن إدارة سورية لاقتصاد الحرب غريبة، ولا يدل نشاط القطاع المدني فيها على أنها في حرب على الإطلاق، ويبدو أن هناك إشكالية في التواصل بين الحكومة والقطاع المصرفي (وأيضا باقي الجهات ذات الفوائض عمومًا)، فلا الحكومة ترغب في الاقتراض منه خوفًا من تزايد أعباء الفوائد عليها، ولا المصارف الخاصة (أكثر من العامة) ترغب بالاكتتاب على سندات خزينة بالحجوم المطلوبة لأسباب مرتبطة بسياساتها الداخلية وسياسة مصارفها الأم.

ويؤدي ذلك إلى استمرار الحكومة في إدارة النفقات الجارية مع إهمال متزايد للنفقات الاستثمارية الضرورية لتدعيم مقومات نجاح اقتصاد أي حرب.

وأضاف أنه في الوقت الذي نجد فيه معظم الدول تقترض بكثافة في أوقات الحرب، نجد أن السياسة النقدية والمالية في سورية مهتمة بالوصول إلى موازنة متوازنة أكثر بكثير من اهتمامها بتغيير وجهة دفة الاقتصاد ومراجعة الأنشطة الموروثة من أزمنة بالية؛  لذلك يستغرب في السياسة الحالية للحكومة استمرار التقشف غير المجدي، وتجنبها الاقتراض الطبيعي (وتركيزها على الاقتراض "السهل" من البنك المركزي)، وتقشفها المكثف في مجالات لا ينتج عنها وفورات حقيقية؛ لذا فالمطلوب - وفق درغام - تغييرات جذرية وسريعة يظهر مفعولها بأسرع وقت ممكن.

من تلك التغييرات المطلوبة - بحسب الحاكم الجديد - التغيير في السياسة النقدية، وذلك من خلال الآتي:

أولًا: تحويل التقاص من يدوي (يستغرق عدة أيام حاليًا ولا يشمل إلا العملة المحلية) إلى مؤتمت (قابل للتنفيذ بحدود 15-30 دقيقة). وتتوافر منذ سنوات مقومات تنفيذ هذه المهمة، وتنفيذها يعني الاستغناء عن نسبة كبيرة من الأوراق النقدية، وتجنب إجراءات مكلفة لكل من التّجار والحكومة والمصارف (بما في ذلك النقل والصيانة والعدادات والتأمين...). وهذا التقاص يمكن له أن يشمل العملات الأجنبية التي تقوم المصارف السورية حاليًا بإجراءات المقاصة فيها عن طريق المصارف الأجنبية.

ثانيًا: اعتماد الدفع بالهاتف الجوال بطرق تسديد سهلة وفعالة فلن ينجح أي نظام فوترة يتحكم به “البائع” لأنه في ظروف الفساد والتهرب الضريبي في سورية، لن يمنح الفاتورة، وسيفضل النقود الورقية؛ لذا لا بد من بنية دفع لا يمكن للبائع تعطيلها أو رفضها، وتتيح لـ”المشتري” التسديد بسهولة عبر ربط رقم حسابه المصرفي برقم جواله. أما البائع (مطعم، مكتب، طبيب...) فيخصص برقم مميز يوضع في مكان ظاهر، ويكون مرتبطًا بجواله ورقم حسابه، وعندها يمكن لكل شخص تسديد أي عملية شراء لا يتجاوز مبلغها 10-20 ألف ليرة مثلًا (النموذج الأولي موجود منذ 5 سنوات).

أما العمليات الكبيرة فيمكن إجراؤها عبر منظومة تحويل مصرفي سريع خلال سنتين بتكلفة متواضعة (وهي منظومة مختلفة جذريا عن تجربة الرواتب عبر الصرافات التي يشتكي كثُر منها)؛ وبذلك لا حاجة لسحب الراتب طالما بالإمكان التسديد لجميع أنواع المدفوعات اليومية، وكذلك التحويل بين الأقارب والأصدقاء.

 وسيسمح ذلك بفرض نسبة ضريبة مقبولة على المبيعات قابلة للتحصيل الفوري (الحصيلة الجديدة أو الضريبة السابقة أيهما أعلى)، وتلغى بالمقابل الضرائب الأخرى المكلفة، التي تتسبب في تذمر المعنيين من طريقة التقدير والتحصيل، ويمهد ذلك لسياسة ضريبية ونقدية أسهل وأرخص وأوضح وأكثر فاعلية تجاه أنشطة اقتصاد الظل.

ثالثًا: ليست الأولوية لتبني سياسة ليرة ضعيفة (مصلحة المصدّرين)، أو قوية (مصلحة المستوردين)، وإنما الأولوية لترتيب البيت الداخلي بطريقة تمنع الارتجال بالقرارات، وتسمح بمنظومة معلومات يمكن البناء عليها في أي قرار نقدي أو مالي على مستوى الدولة. وهذا الأمر يتطلب إعادة هيكلة الكثير من الإجراءات، وتعريف الأولويات التي تناسب سورية ولا تغرقها في بنى وإجراءات وتقليد أعمى لما يقوم به الخارج في ظروف عيش سليمة وميسورة تخصه. أما عن زيادة الرواتب فقال درغام لا ننسى أن الجزء الأكبر من السوريين ليس لديهم وظيفة، ومنهم من كان يعيش من التعامل مع القطاعات الحكومية التي انخفضت أنشطتها بشكل حاد؛  لذا وعند تنفيذ تغييرات جذرية في الاقتصاد سيكون بالإمكان زيادة الرواتب دون زيادات تأكلها مسبقا بالأسعار، أما غياب هذه التغييرات اللازمة لشفافية المنظومة الاقتصادية، فسيؤدي إلى فلتان أكبر في الأسعار وسحق لسواد الشعب، سيما في ظل حرب لن تعرف حقيقة ما دمّرته إلا بعد أن تضع أوزارها.

تضمن هذه المقترحات - برأي الدكتور درغام - أرضية فعالة لتغيير السياسة النقدية والضريبية، فهي تحقق التحول التلقائي للجزء الأكبر من الضرائب ليصبح على الاستهلاك، خصوصا عند الشراء من تجار التجزئة والمهنيين وأصحاب الحرف؛ وهذا يعني إمكانية المطابقة بشكل أكبر مع مختلف حلقات الإنتاج. وسيكون تحقّق الضريبة على المبيعات فوري التحصيل؛ ما يمهد لسياسة ضريبية ونقدية أسهل وأرخص وأوضح وأكثر فاعلية حتى في اقتصاد الظل. كما أن المقترحات تسمح بتركيز الجهود على القطاعات (القاطرة)  التي ستسهم بتحريك لاحق لباقي القطاعات، في إطار أعلى من وضوح التوجهات إلى مستقبل تعود فيها النقود لتصبح أداة قياس؛ ما يعني مجتمعًا أكثر عدالة وأقل فسادًا، وستسهم هذه المقترحات – إن تمّ تطبيقها – في توفير بنية استعلامات مهمّة عن سلوك المستهلكين ودراسات السوق ومعرفة تصنيف أي تاجر من واقع التدفقات النقدية؛ ما يسهل على الموردين أو المقرضين معرفة تطور تصنيف زبائنهم بشكل أفضل،  ونظرًا إلى أهمية هذه الإجراءات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والأمني أيضًا، لا بد من التأكد من متابعة شركات الاتصالات لتخصيص الجزء الأكبر من عتادها وكوادرها لأغراض تبسيط الإجراءات وتحقيق الوفورات المرجوة .

ويخلص درغام إلى أنه بعد أن أثبتت السياسات العلاجية عدم جدواها، آمل أن يكون ما تقدم مقدمة لحوار أعمق للوصول إلى حلول ناجعة، مؤكدًا أنه مهما كانت الطبيعة التكنوقراطية لهذه الحلول، فإنها تبقى الأكثر قابلية للتطبيق واجتماع السوريين حولها بما يخصّ تحسين معيشتهم، وهو أمر ممكن بعيدًا عن الصراعات السياسية، وفي ظل بنية تكنوقراطية تهتم بمقاربات قادرة على التركيز على ما يجمع المواطنين، ويدعم شعور الانتماء لديهم، وقناعتهم باهتمام جدي بهواجسهم المتزايدة في ظل الظروف المأساوية الحالية.