غزة ـ محمد حبيب لا يزال الاحتلال الإسرائيلي، يتبع سياسية "معاقبة الشهداء الفلسطينيين" حتى بعد موتهم، حيث يحرم ذويهم من دفنهم، ويتعمد بذلك إيذاءهم وتعذيبهم كعقاب جماعي، كجزء من سياسته في تعامله مع الفلسطينيين والعرب، في ما تعتبر سياسة احتجاز الجثامين جريمة أخلاقية وإنسانية ودينية وانتهاك فظ للمادة (17) من اتفاقية جنيف الأولى، التي تكفل للموتى تكريمهم ودفنهم حسب تقاليدهم الدينية وأن تُحترم قبورهم.
وقد عاشت عائلة الشهيد الأسير في سجون الاحتلال أنيس محمود دولة، بين الأمل والرجاء تنتظر استلام جثمان ابنها الذي استشهد في سجن عسقلان عام 1980، نتيجة إصابته بهزال شديد في جسمه بعد إضرابه عن الطعام، جاء إبلاغ المحكمة الإسرائيلية العليا لمركز القدس للمساعدة وحقوق الإنسان، باستنفاد الجهات الأمنية سبل البحث عن جثمان الشهيد دولة، وعدم العثور عليه، كسهمٍ قاتل سقط على قلوب ذويه، الأمر الذي دفعهم إلى مطالبة اللجنة الوزارية بمتابعة ملف جثمان ابنهم وغيره من المحتجزين الأسرى.
واعتبر القانون الدولي الإنساني احتجاز جثامين الشهداء جريمة من جرائم الحرب، كما حددت ذلك اتفاقية جنيف الأولى، والإعلان العالمي للأمم المتحدة حول الاختفاء القسري والتي نصت على تكريم الموتى حسب تقاليدهم الدينية، وأن احتجاز الجثامين في مقابر غير لائقة يعد إنكارًا لميثاق الأمم المتحدة، وانتهاكًا خطيرًا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية التي وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وقال عميد الأسرى الفلسطينيين نائل البرغوثي، إن "فقدان جثمان الأسير دولة في مدافن الأرقام وتصديق المحكمة العليا الإسرائيلية على ذلك، يعد جريمة يشترك فيها القضاء الإسرائيلي وأذرعه الأمنية"، منتقدًا ما تقوم به إسرائيل بمحاسبة الفلسطينيين باعتقالهم أحياء، والاقتصاص من أسراهم وهم داخل السجن بالقهر والحرمان، ثم تطاولها للمسّ بكرامة أجسادهم بعد الشهادة.
وأكد منسق "الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء" سالم خلّة، في حديثه لصحيفة "الرسالة" المحلية، أن "الأسير دولة بعد استشهاده في سجن عسقلان سنة 1980 تم نقل جثمانه إلى معهد أبو كبير في القدس، لتشريحها هناك بعدها فقد"، مستدلاً بالوثائق التي يحتفظ بها الصليب الأحمر، معتبرًا إخفاء المحاكم الإسرائيلية، خبر مصير جثة الشهيد دولة "جريمة مركّبة" بحقه من قبل سلطات الاحتلال بالإضافة إلى 446 شهيدًا ومفقودًا غيره، موضحًا ما يقومون به من جهود قانونية وسياسية تجاه قضية شهداء الأرقام والمفقودين، تحت مسمى حملة "لنا أسماء ولنا وطن"، بتعريبهم هذه القضية وفتح علاقة مباشرة مع جامعة الدول العربية ومصر والأردن ومغرب وتونس، بالإضافة لتمكنهم من استعادة جثمان 91 شهيدًا أسير في العام الماضي، وتحرير 93 جثة قبلها منهم مارون العاروني في تشرين الأول/أكتوبر 2010، وحافظ أبو زنط في تشرين الثاني/نوفمبر 2011.
وذكر خلة أن "جهود حثيثة قائمة عبر مجلس حقوق الإنسان واتحادات نقابية وأوروبية، من خلال نشاطات دبلوماسية سياسية لتشكيل مناخٍ يضغط على ضرورة وضع الاحتلال الإسرائيلي أمام المحاكم الدولية، لما يقترفه من جرائم بشعة بحق المعتقلين وجثامينهم في سجون الاحتلال، ولا يزال هناك مئات الجثامين لشهداء وشهيدات محتجزة في مقابر غير معدّة من ناحية إنسانية وأخلاقية ودينية تقع في مناطق عسكرية مغلقة يمنع زيارتها أو الاقتراب منها أو حتى تصويرها، مزدحمة بالأضرحة، وأمام كل واحد منها لوحة معدنية تحمل رقم خاص تحتفظ الجهة الأمنية بملفه؛ هذا السبب الذي جعل هذه المقابر تسمى بـ(مقابر الأرقام)".
ولفت منسق الحملة الفلسطينية، إلى أنه "في بعض الأحيان تصدر أحكام بالسجن على بعض هذه الجثث لسنوات، وبعضها الآخر قد يستخدم كورقة سياسية للمساومة والابتزاز، هذا كله يأتي في إطار إخفاء آثار جرائم الاحتلال البشعة المتمثلة في طريقة قتله للإنسان من دون وجه حق والتمثيل والتنكيل بجثته بشكل وحشي" وفق قوله.
وعن تأكيد صدق الخبر بأن الجانب الإسرائيلي، يسرق أعضاء الشهداء ويتاجر فيها، أثبت خلّة بأدلة وبراهين لرئيس معهد الطب الشرعي الإسرائيلي إيهودا هيرس في تصريحه للتلفزيون الإسرائيلي، أنه أشرف على سرقة أعضاء من جثامين شهداء لزرعها في أجساد جنود جرحى، بالإضافة إلى إعلان الصحافة الأميركية عن كشف شبكة للمتاجرة بأعضاء الأسرى الشهداء في الولايات والمتحدة وإسرائيل، إضافة إلى ما صرّح به أخيرًا رئيس لجنة مناهضة التعذيب الإسرائيلي يوشاي هيموفن، أن هناك "سجون إسرائيلية بها أسرى فلسطينيين لا أحد يعلم مصيرهم"، مضيفًا "على إسرائيل إثبات عكس ذلك، بإرجاع جثمان الأسير دولة والمئات غيره، وفي حال عدم إعادة جثمانه سيظل الاتهام ضدها، فلا يوجد دخان من دون نار".
وأعلن رئيس نادي الأسير الفلسطيني قدورة فارس، أن "هناك إمكان أن يكون الاحتلال باع أعضاء الشهيد، وأن هذا مؤشر جديد على انحطاط أخلاقي وقيمي لدولة الاحتلال واستخفاف بالمواثيق والقوانين والاتفاقات الموقع عليها، وأن الاحتلال بهذه الجريمة يتحدى كل القيم الإنسانية"، معتبرًا استمرار العالم على صمته كان له الدور في تشجيع دولة الاحتلال عمليًا على اللامبالاة "لأنها تعلم سلفًا بأنها لن تتعرض لأي مُساءلة".
وشدد فارس على أن "المواطن الفلسطيني الذي يضحى من أجل الوطن هو أغلى ما نملك، ولذلك لن نترك هذا الشهيد وغيره من الشهداء في مقابر الأرقام، حتى لو حاول الاحتلال إخفاء جثثهم التي ستبقى خالدة في نفوسنا، فهذا لن يزعزع قواهم"، مطالبًا بأن "تكون هناك لجنة دولية للتحقيق في سلسلة الجرائم التي ارتكبت بحق الأسرى"، مؤكدًا "ضرورة تحمل مؤسسات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية المسؤولية القانونية والأخلاقية تجاه الجريمة الصهيونية البشعة، وملاحقة ومحاسبة قادة الكيان الصهيوني الذين ارتبكوا جرائم مبرمجة بحق الحركة الأسيرة، والتي كان أخرها الشهيد عرفات جرادات".
وطالب رئيس نادي الأسير الفلسطيني، رئاسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تكثيف مطالبتها لإسرائيل، بضرورة العثور على جثمان الأسير دولة وغيره الكثير، داعيًا القيادة الفلسطينية إلى إطلاع الجهات العربية والدولية على هذا الملف الذي يفضح السياسة العنصرية الإسرائيلية، وممارسة ضغوطها على الاحتلال كيْ يتحمل مسؤولياتها بالعثور على جثمان الشهيد أنيس وإعادته إلى عائلته فورًا