"العرب اليوم" على الحدود الجزائرية مع البدو
الحدود الجزائرية ـ المالية ـ حسين بوصالح
ألقت الحرب المالية بظلالها على حياة البدو الرحل، الذين يقال عنهم أنهم لا يؤمنون بفلسفة الحدود, و لا يخضعون لمنطق التقيد, حياتهم بلا فواصل, يهيمون في البراري الواسعة بحثًا عن الماء والعشب لإبلهم ومواشيهم، التي تعد المصدر الوحيد لقوتهم. بعد قرار الجزائر غلق حدودها الجنوبية مع مالي، تحاشيًا
للانفلات الأمني, فُرِض على البدو الرحل حياة جديدة، يرون فيها أنها سلبت منهم حريتهم وفرضت عليهم نمط معيشي غير معتادين عليه, في وقت يترقبون فيه تسوية وضع أبناءهم المحاصرين في الأراضي المالية.
استغقرت بنا مهمة الوصول إلى مواقع البدو الرحل نصف يوم من المسير، انطلاقًا من مدينة برج باجي مختار، الواقعة على بعد 26000 كيلومترًا جنوب العاصمة الجزائر, حيث توجهنا عبر مسالك رملية صعبة، دون معرفة مسبقة أن هذا الطريق هو المفضل لقطاع الطرق، الذين استهدفوا، قبل أسبوع فقط، سيارة أحد لمواطنين بعدما هدودهم بسلاح".
غير أن اختيارنا لتوقيت الذهاب، الذي كان مبكرًا, في حدود الساعة الرابعة صباحًا، رفقة الشاب "أتون" (32 عامًا)، ينحدر من منطقة برج يباجي مختار، و هو مرشد خبير بالمسالك الصحراوية، وكان ينتقل بين الحدود الجزائرية/المالية قبل حربها، جعل الأمر أقل خطورة.
وحدثنا أتون أن هذه المنطقة لم تعد أمنة مثلما كان عليه الحال سابقًا، فاضطراب الوضع في شمال مالي، والتدخل الأجنبي الفرنسي في هذه الحرب، كانت له إفرزراته، التي أثرت على تجارتهم، التي كانت تعتمد على نقل السلع والمواد الغذائية بين برج باجي مختار الجزائرية و منطقة الخليل المالية، التي تبعد عن الاراضي الجزائري بحوالي 15 كيلومترًا فقط، لكن اليوم أصبح الدخول إلى الخليل مجازفة في حد ذاتها.
كانت الحرارة لا تطاق، حيث تجاوزت حدود 37 درجة عند الساعة الحادية عشر إلا ربع, ما جعلنا نشعر بالعطش الشديد، والإرهاق، غير أن حديث السائق معنا عن قصص تارخية للمنطقة أنساني نوعًا ما طول الطريق، ومشقة السفر.
في طرقينا كانت الحياة ساكنة لا شيء يظهر لك إلا الكثبان الرملية، وأحيانًا "الحمادة"، المعروفة بكثير الحصى و الحجيرات الصغيرة, و كان يخيل إليّ رؤية نهر في الصحراء، قبل أن ينطلق السائق بالضحك ليخبرني أن ما أشاهده ليس نهرًا وإنما سراب.
بدأت أبصارنا تلمح من بعيد شيئًا يوحي بعودة الحياة تدريجيًا إلى هذه المنطقة الصحراوية الجرداء، بعد اخضرار بدأ يلقي سدوره علينا، نبتات صحراوية قيل لنا أنها تسمى بـ"الجرجير"، وهو نوع من النباتات التي تتحمل الجفاف، ولها منافع كبيرة يستعملها أهل البدو لمداوة إبلهم ومواشيهم، ولها طعم مر, وبعدها شرح مرشدنا أنواع النباتات المعروفة في المنطقة، قبل أن يقع بصرنا على قافلة من الجمال, هنا عرفنا أننا وصلنا إلى موقع البدو الرحل، بعد مسير دام ربع يوم تقريبًا، و كان هذا في حدود الساعة الواحد و نصف ظهرًا, وكانت المنطقة التي استقر بها البدو الرحل على مسافة قريبة جدًا من الأراضي المالية.
الخيام كانت مترامية الأطراف, و أطفال لا تفارهم المعاناة على ملامحهم، مثلما يرفض الذباب مغادرة وجوههم البريئة.
تحدثنا بعدها مع محمد (45عامًا)، أب لـ 4 أبناء و متزوج من ثلاث نساء, كانت الفرحة بادية على وجهه لحظة وصولنا, ظنًا منه أن السلطات الوصية تذكرتهم أخيرًا, قبل أن نخبره أني صحافي، قدمت لنقل معاناتهم، التي زادت تأزمًا مع الحرب على مالي، وغلق الحدود، وأني أعمل لصالح موقع يسمى "العرب اليوم"، وهو موقع عربي، يُعدُ عين و أذن العالم العربي.
طرحنا سؤالاً على محمد عن وضعية إبلهم بعد غلق الحدود الجزائرية/المالية, فأجابنا أنه "تحسر كثيرًا للوضع القائم علي الحدود، لاسيما أن حياتهم كانت بين صحاري برج باجي مختار الجزائرية ومنطقة الخليل المالية, يقوم بالرعي في الأراضي الجزائرية في فصل الربيع وصولاً إلى أواخر الصيف، ليغير الوجهة بعدها إلى الأراضي المالية، بعد بداية فصل الخريف وصولاً إلى فصل الشتاء، نظرًا لتوفر الكلأ لإبلهم في مثل هذه المواسم", وأضاف محمد أن "إبلهم تاهت بعد غلق الحدود، حيث يوجد أكثر 100 من الإبل في الأراضي المالية، ولم يستطع الذهاب إلى هناك، نظرًا لتحذير الجيش الجزائري من خطورة الدخول إلى هناك, وأن القبيلة باتت مشتتة بعد دخول بعض البدو الرحل إلى مالي وعدم قدرتهم الخروج منها، الأمر الذي أزم وضعهم، ورسم صورة سوداء عن مستقبل رعيهم".
غير أن محمد استدرك لخطورة التدخل الأجنبي الفرنسي على مالي وقال "إن الجزائر باتت مستهدفة من قبل جهات خارجية، لخلق الفوضى و نشر النزاعات الداخلية في المنطقة، الأمر الذي لن يكون، لأنهم يتابعون الأوضاع، على الرغم من بعدهم عن العاصمة بآلاف الأميال".
وتُعد إبل منطقة برج باجي مختار من أجود الأنواع، والمهددة بالانقراض، الأمر الذي يتخوف منه البدو الرحل، مع استمرار غلق الحدود، ونقص الماء والأمطار .
فضلنا التقرب من إحدى الخيام، التي تستخدمها نساء البدو الرحل، ووجدناهن منهمكات في تحضير الغداء لنا، حيث أن سِمة الكرم والترحيب بالضيف متجذرة عندهم, حضروا لنا "اللمة"، وهي وجبة تصنع من الدقيق، وتُعد تحت الرمل، ويوضع فوقها الجمر, لتمزج بعدها مع لحم الغنم, كما يُعد هذا الطبق الوحيد المفضل للبدو الرحل.
وأخبرتنا السيدة رقية، أو كما تلقب بـ "ونا" (70 عامًا)، أنها، وعلى الرغم من سنها المتقدم، ماتزال تقوم بالعديد من الأعمال المنزلية، حتى تفقد القبيلة.
وكانت داخل الخيمة سيدة في مقتبل العمر، كانت حامل في شهرها التاسع، التعب و الإعياء باديان عليها، اقتربنا منها والخجل هو الصفة المسيطرة عليها، سألناها عم ما إذا قامت بزيارة الطبيب لمتابعة جنينها الأول, قبل أن تتدخل السيدة ونا، وتخبرنا أنها القابلة، التي تقوم بتوليد جميع نساء القبيلة، وأنها ماهرة في ذلك, وأنها تعتمد على الأعشاب الطبية، وتقدم للنساء الحوامل حليب الناقة، المفيد جدًا، حسب قولها.
توجهنا بعدها إلى مراعي الإبل, والتي كانت أعدادها في حدود 300 رأس، ويسهر على متابعتها أطفال لم تتجاوز أعمارهم 15 عامًا، اقتربنا من أحدهم كان يبدو عمره 6 أعوام، وعند سؤاله عن سنه، لم يجد جوابًا، كيف لا وهو لم يسمع عن المدرسة، ولد فوجد نفسه راعيًا متنقلاً بين الحدود الجزائرية المالية, وسألناه عن أمنيته، فأجاب أنه يتمنى أن يستقر في بيت تتوفر له شروط الحياة، وأخبرنا ببراءة الأطفال، أنه يتمنى أن يأكل الكثير من الحلوى التي قدمناها له، والتي لم يأكلها من قبل، وحقيبة يحملها إلى المدرسة للتعلم.
نال التعب منا، فقررنا شد رحال العودة إلى برج باجي مختار، التي تبعد عن مكان تواجد البدو الرحل حوالي 250 كيلومترًا، وتوديع البدو، الذين قضينا معهم وقتًا ممتعًا، و الذين على الرغم من صعوبة حياتهم، وقسوتها، إلا أنك تلمس فيهم قناعتهم وطيبتهم وكرمهم، صفات أصبحت قاب قوسين أو أدنى في زماننا في خبر كان.