أنقرة - العرب اليوم
سيطرت حالة من الاستقطاب على الحياة السياسية والمجتمع في تركيا منذ أواخر 2013 وسقط الإعلام التركي في فخ التجاذب السياسي مع بدء ما عرف بعمليات 17 - 25 ديسمبر (كانون الأول) التي فضحت أكبر عمليات فساد ورشوة في تاريخ تركيا وأحدثت زلزالًا في الحكومة باستقالة 4 من وزرائها واعتبرها الرئيس رجب طيب إردوغان، الذي كان رئيسا للوزراء حينذاك، مؤامرة من جانب حليفه السابق الداعية فتح الله غولن للإطاحة بحكومته.
ومع مطلع عام 2014 بدأت حركة تصفية واسعة للصحف ووسائل الإعلام المختلفة من قنوات تلفزيونية ووكالات أنباء ومواقع قريبة من حركة الخدمة التي يتزعمها الداعية السبعيني المقيم في ولاية بنسلفانيا الأميركية منذ العام 1999 بدأت بفرض الوصاية على هذه المؤسسات وصولا إلى إغلاقها نهائيا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في 15 يوليو (تموز) 2015 وهنا اختفت من الوجود صحف وقنوات بارزة واختفت أسماء لصحافيين وإعلاميين بارزين بعضهم خلف القضبان وآخرون فروا من البلاد لاتهامهم بالتورط في محاولة الانقلاب أو دعم الإرهاب.
وبحسب الإحصاءات الرسمية الصادرة قبل محاولة الانقلاب الفاشلة، ذكرت المديرية العامة للصحافة والنشر الإعلام التركية، أن تركيا يصدر فيها 2731 صحيفة يومية وأسبوعية، و4071 مجلة. كما يوجد 731 قناة تلفزيونية و1059 محطة إذاعة وبلغ عدد الصحافيين المسجلين رسميا ويحملون بطاقات صحافية إلى نحو 15 ألف صحافي.
* تأثيرات سلبية
لكن محاولة الانقلاب الفاشلة تركت آثارًا سلبية واضحة على وسائل الإعلام، فقد اختفى من على الساحة الإعلامية أكثر من 170 وسيلة إعلامية مختلفة التوجهات وغيرت بعض وسائل الإعلام المعسكرات التي كانت تقف فيها وتحولت من جانب إلى آخر وفي الأغلب بات هناك معسكر واحد تقف فيه غالبية وسائل الإعلام في تركيا هو معسكر الحكومة.
أغلقت الحكومة أكثر من 140 مؤسسة إعلامية لعلاقتها بحركة الخدمة التي يتزعمها غولن والتي تسميها الحكومة بالكيان الموازي ولاحقا أطلقت عليها اسم «منظمة فتح الله غولن الإرهابية».
كما أغلقت صحف وقنوات أخرى غالبيتها كانت ناطقة باللغة الكردية لاتهامها بدعم منظمة حزب العمال الكردستاني فضلا عن بعض القنوات العلوية.
وأدت هذه الحملة إلى خسارة مئات الصحافيين وظائفهم كما أودع نحو 150 صحافيا السجون لاتهامهم بدعم الإرهاب ما أثار انتقادات واسعة من جانب الغرب والاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية المعنية بحرية الصحافة التي رصدت تغيرا في المناخ المحيط بعمل الإعلام في تركيا سواء الصحافة أو القنوات التلفزيونية أو وسائل الإعلام الاجتماعي.
وأصدرت السلطات التركية، كجزء من حملة تطهير الجيش ومؤسسات الدولة ممن تقول إنهم اتباع غولن مراسيم بإغلاق وسائل إعلام اتسع نطاقها لتشمل مؤسسات إعلامية مؤيدة للأكراد وأخرى تابعة للعلويين وثالثة منتمية لمعارضة التقليدية.
* توسيع الحملة
وتعرضت الصحف المحسوبة على المعارضة التي تسمى بالعلمانية لحملات تفتيش واعتقالات ومحاكمات للعاملين فيها ومن أبرزها صحيفة «جمهوريت» أقدم الصحف التركية على الإطلاق والتي تمثل التيار العلماني وظهرت في العام التالي لتأسيس الجمهورية التركية الحديثة أي عام 1924 والتي سبق أن اعتقل رئيس تحريرها جان دوندار، الذي سافر لاحقا إلى ألمانيا ولا يزال يقيم ومدير مكتبها في أنقرة أردم جول وسجنا بسبب اتهامهما بإفشاء أسرار للدولة في القضية المعروفة بقضية «شاحنات المخابرات» ثم أفرج عنهما بموجب قرار من المحكمة الدستورية أصدرته بموجب طعن على قرار حبسهما.
وبعد ذلك أمرت محكمة تركية بحبس رئيس تحرير الصحيفة الجديد مراد صابونجو و9 من صحافييها وإداريها لاتهامهم بالترويج ودعم منظمات إرهابية، ما فجر انتقادات واسعة من خارج تركيا فضلا عن غضب حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة التركية.
وفي الأسبوع الأول من شهر يونيو (حزيران) الماضي اعتقلت السلطات التركية، رئيس تحرير صحيفة «أيدنليك» ذات التوجه القومي في أحدث خطوة ضمن سلسلة من الاعتقالات نشطت مؤخرا، وتستهدف صحافيين منتقدين للحكومة، وذلك استنادا إلى مقال في عام 2014 حمل انتقادات لوزير الطاقة والموارد الطبيعية برات البيرق.
وفضلا عن ذلك تعرضت صحيفة «سوزجو» اليسارية وهي من أعلى الصحف توزيعا في البلاد لحملة مداهمات واعتقالات أيضا، كما أغلقت صحيفة «طرف» اليومية، وهي من الصحف التي أثارت ضجة واسعة بكشفها عن محاولات انقلابية ضد الحكومة من قبل أبرزها قضية أرجينكون التي تضمنت أكثر من مائتي محاكمة لصحافيين وجنرالات اتهموا بالتآمر على الحكومة.
* استقطاب داخلي
وتحولت حرية الصحافة والتعبير والمصادرات والقيود على وسائل الإعلام إلى مادة للاستقطاب السياسي تستغل في الصراع بين الحكومة والمعارضة مع ضيق الهامش الذي تتمتع به المعارضة حاليا بعدما رصدته من عمليات شراء لوسائل الإعلام على نحو مكثف من جانب رجال أعمال مقربين للحكومة وبالتالي أصبحت مساحة تعبير المعارضة عن نفسها تضييق بشكل كبير.
وبحسب باحثين محسوبين على الحكومة التركية، أصبح نحو 80 في المائة من وسائل الإعلام يسير في خط الدولة الرسمي بعد محاولة الانقلاب، فيما خففت وسائل إعلام أخرى، لا سيما المملوكة لمجموعة دوغان، التي تعد أكبر مجموعة إعلامية في تركيا من انتقاداتها للحكومة وأصبحت توجهات صحف وقنوات المجموعة مثل صحيفة «حرييت» وقناتي «سي إن إن تورك» و «كنال دي» لا تختلف كثيرا عن القنوات والصحف الموالية للحكومة.
من جانبه، انتقد بولنت تزجان، نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، المتحدث باسم الحزب التوسع في اعتقال الصحافيين والتضييق على الصحف قائلا إن «تركيا تشهد واحدة من أكثر الفترات قسوة في تاريخ الصحافة في البلاد».
في المقابل، أعلن إردوغان مرارا، ردا على انتقادات المعارضة والمنظمات الدولية المعنية بحرية الصحافة وكذلك الاتحاد الأوروبي، أنه لا يوجد سوى اثنين فقط من الصحافيين الموقوفين في تركيا يحملان بطاقة صحافية أما الباقي فإنهم محبوسون لعلاقاتهم بمنظمات إرهابية أو دفاعهم عنا وليس بسبب عملهم الصحافي، بحسب قوله.
* انتقادات خارجية
وفقا للاتحاد الأوروبي للصحافيين فإن 159 صحافيا وإعلاميا مسجونون في تركيا، بينهم مراسلون من فرنسا وألمانيا، وتحتل تركيا المرتبة 155 من بين 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة لمنظمة صحافيين بلا حدود.
ودفعت الضغوط التي يتعرض لها الصحافيون، وتدهور حرية التعبير والأوضاع السيئة التي تعانيها الصحافة في تركيا حملة الشارة الدولية، وهي منظمة دولية غير حكومية مختصة في حماية الصحافيين، إلى منح برنامج الصحافة المستقلة في تركيا جائزتها للعام الحالي.
وذكرت المنظمة أن اختيارها لبرنامج الصحافة المستقلة في تركيا جاء على خلفية تدهور أوضاع حرية الصحافة في تركيا خلال العام الماضي وحتى الآن ومن أجل التأكيد على تضامن حملة الشارة مع الصحافيين الذين اعتقلوا عشوائيا وتأييد صراع الآخرين في المعركة الشجاعة للدفاع عن حرية الرأي والتعبير.
ولم تتسم علاقة الحكومة بوسائل التواصل الاجتماعي بالسلاسة أيضا، في مراحل ومناسبات مختلفة.
وهذه الأوضاع جعلت الكاتب الصحافي التركي الشهير فهمي كورو، أحد الكتاب الذين أمضوا وقتا طويلا بالقرب من الرئيس إردوغان حتى وقت قريب، إلى انتقاد وضع الصحافة في تركيا، مشيراً إلى أن الصحف في تركيا لم تعد تنشر أخباراً بل أصبحت تنقل فقط تصريحات مسؤولي الحكومة في السياسة الداخلية والخارجية، حسب وصفه.
وأضاف كورو أن وسائل الإعلام التركية تخصص مساحة كبيرة لتصريحات مسؤولي الحكومة في الوقت الذي تشهد فيه البلاد هجمات انتحارية، وأن وسائل الإعلام لا تهدف لكشف خلفية الأحداث. وأوضح أن الخبراء على شاشات التلفزيون يدلون بتصريحات لا طائل لها، لافتاً إلى أن مهمة الصحافة هي الكشف عن الحقائق والحصول على إجابات على كل هذه التساؤلات.
* رفض الأحادية
ملاحظات كورو تلتقي مع ما يشعر به الجمهور المتلقي لوسائل الإعلام والقارئ للصحف والذي يرى أن القنوات التلفزيونية والصحف انغمست في سباق محموم لمحاولة ترسيخ فكرة أن فتح الله غولن هو مدبر محاولة الانقلاب وأن من يقول غير ذلك هو داعم له وإرهابي أو داعم للإرهاب.
ويقول حسين يلديز إن القنوات التي أغلقت وكانت تضمن للمشاهد التركي منوعات كبيرة من البرامج حلت محلها قنوات تجارية تركز على التسوق عبر التلفزيون للأعشاب والعلاج البديل أو مستحضرات التجميل والتخسيس وباتت الخيارات ضيقة جدا أمام المشاهد ليتسع الاتجاه إلى التلفزيون المدفوع والقنوات المشفرة.
من جانبها، لفتت الكاتبة التركية أمبرين زمان إلى أن الصحف المعارضة القليلة المتبقية في تركيا، باتت تخسر مستثمريها الأجانب، وهو واقع مأسوي، على حد قولها لأن مجموعة «أكسل سبرينغر»، التي تُعتبر من مجموعات النشر الكبرى في أوروبا، قررت عدم القيام باستثمارات جديدة في تركيا، بحسب ما أعلن مديرها التنفيذي ماثياس دوبفنر في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، موضحا أن المجموعة الإعلامية العملاقة التي تتخذ من برلين مقراً لها ستبيع حصّتها المتبقية في مجموعة «دوغان» للبث والبالغة نسبتها 7 في المائة.
وكشفت تقارير مؤخرا عن أن مستثمرين قطريين يسعون لشراء نسبة كبيرة من أسهم صحيفتي «حرييت» و«ستار»، ما يعني من وجهة نظر بعض الخبراء انضمام الصحيفتين، إلى خط الدولة، بعد أن كانت صحيفة «حرييت» التابعة لمجموعة دوغان واحدة من الأصوات القليلة التي تحافظ على الهامش الذي ضاق كثيرا جدا لحرية الصحافة والتعبير عن الرأي الآخر.