بغداد – نجلاء الطائي
وجّه وزير التربية في العراق الدكتور محمد إقبال الصيدلي وفي أيام شهر رمضان المبارك بمساعدة المواطنة العراقية أم ميلاد والتي ظهرت على شاشة إحدى الفضائيات عارضة بناتها للبيع.
وقال المكتب الإعلامي، أن الدكتور إقبال قرر مساعدة الأم العراقية التي عرضت بيع بناتها الثلاثة لتعيش ابنتها الرابعة عبر إحدى الفضائيات العراقية، فيما وجّه الوزير بمساعدتها ماليا وتوفير فرصة عمل لها أو لأحد من ذويها . وأضاف أن المواطنة أم ميلاد ظهرت في إحدى الفضائيات ببرنامج (رباط سالفة ) مناشدة الجميع بشراء بناتها التي تسعى لبيعهن من أجل عيش الأخرى، ملبيا دعوتها على نحو سريع ومعلنا مساعدتها ومد يد العون لها لعبور أزمتها هذه .
وأم ميلاد امرأة عرضت بيع ثلاثة من بناتها لتعيش ابنتها الرابعة وتستطيع إعالة بقية أفراد هذه الأسرة المنكوبة وتوفّر لهنّ قوت أيام معدودة، بعد أن نفد صبرها ويئست من ظهور المنقذ، مبررة بيع فلذات كبدها بالقول: "ماذا أفعل وأنا لا بيت لي ولا وطن؟!". وقد أثار تداعيات عرض المرأة أصداء واسعة بين جمهور ونخب عراقية الذين أعرب معظمهم عن استيائهم من تردي الواقع المعيشي لمجاميع كبيرة من شرائح وفئات اجتماعية مختلفة، في ظل الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية، وظهور تمايز طبقي حاد بين قلة مترفة وجموع مسحوقة لا يتلقى معظمها إلا معونات ضئيلة من الدولة، فيما تعدم عوائل عديدة تعيش تحت خط الفقر أية مساعدة تذكر.
وأم ميلاد في الستينات من عمرها، تتكون عائلتها من مجموعة أخوات صغار، ترعاهم الأم الأرملة والجميع يعيشون في غرفة صغيرة ضمن منزل إحدى عوائل المنطقة". وأضاف "كانت أوضاع العائلة يرثى لها وعرفت من الأم قصة عرض بناتها الثلاثة القاصرات لسداد دين بذمتها، ويتولى عدد من المواطنين لجمع المساعدات للعوائل المتعففة، وقدم لهذه العائلة بعض الأغطية والفرش بعد أن لاحظنا أنهم يفترشون الأرض". ووجه وزير التربية العراقي محمد اقبال الصيدلاني بمساعدة هذه المرأة من خلال توفير عمل ترتزق به لتعيل بناتها .
وفي أحد المنازل القريبة ضمن مجمع شيدته المفوضية السامية لشؤون اللاجئين للعوائل المهجرة والنازحة، تشكو أم عراقية أخرى بؤس الحال وهي تتكفل ابنتها الشابة المعاقة والراقدة على فراش المرض منذ سنوات. وتوجهنا إلى هناك وطرقنا الباب الموارب مرارا وما من جواب، تنحنح المعلم ودخل المنزل على مهل ثم ناداني ليشير لي إلى غرفة مشرعة الباب خالية من الأثاث وقد تمددت في وسطها شابة مغطاة ببطانية راحت ترنو بعينيها نحونا وتشير بيديها بحركات مضطربة، وقبل أن يشرح لي سيد علي، قصتها دخلت أمها يتبعها .
وذهبت الأم تشرح لنا تفاصيل حالة ابنتها، مبينة أنهم هُجّروا من منطقة الحصوة في محافظة الأنبار بعد أن قام المتطرفين عام 2006 بذبح زوج ابنتها هذه التي فقدت بعد أيام طفلتها المريضة فأصيبت بانهيار عصبي، سبّب لها لاحقا الشلل والإعاقة الذهنية وهي مريضة منذ ذلك الحين، وطلبت الأم من المحافظ لمساعدتها في علاج ابنتها، فوعدها الأخير خيرا ووجه مدير صحة بمتابعة حالتها.
*الأم التي باعت ابنتيها
وتوجهت إلى بيت هذه الأم، التي روت تفاصيل قصتها قائلة: إنها تدعى أم ميلاد، وهي أرملة زوج كان يعمل كاسبا لكنه توفي قبل سنوات بعد إصابته بالمرض، وترك في عنقها اربعة إناث وفقرا مدقعا، ولم يمنحها صاحب المعمل أي شيء. وتزعم أم ميلاد أنها اضطرت إلى استدانة مبالغ من المال لتأمين تكاليف معيشة بناتها على أن ترد المبلغ بزيادة 100 ألف دينار كربى. وأوضحت أم ميلاد أنها تسكن في غرفة ضمن دار إحدى العوائل في منطقة العشوائيات، مبينة أنها اعتمدت في تأمين قوتهم على الصدقات.
وقد عطف عليها أحد أقاربها فسمح لها بالسكنى في نصف دار مشيدة ضمن عشوائيات المنطقة، وهكذا مرت الأعوام وهم يعيشون الكفاف إلى أن طالبها الدائن بسداد دينها القديم، فاستجارت بأقاربها علهم يمدون لها يد المساعدة لكن دون جدوى، مما اضطرت إلى عرض بناتها القاصرات للبيع . وتبرر الأرملة المنكوبة ذلك بأنها احتاجت إلى المبلغ لتتمكن من بناء غرفة تؤويها مع ابنتها الرابعة بعد أن طالبها قريبها الذي تشاطره منزله، بإخلائه لحاجته إلى الشطر الذي تسكنه.
وقالت أم ميلاد إن وزير التربية أرسل في طلبها بعد أن سمع بقصتها من وسائل الإعلام، وأنها ستذهب إليه في ديوان الوزارة. وحاولت معرفة رأي بناتها، وفيما إذا كانا موافقات على البيع، ولكنهن رفضن التحدث وهربن ضاحكات كأي اطفال بعمرهن، وقد علقت والدتها بالقول: "خالة شسوي.. تعبت ومليت ومحد ساعدنا، تره آني مضطرة، صدك هنه صغيرات، لكن كلت هم أسد ديني منها وهم يها إلى عوائل أحسن ما باقيات بهالضيم".
على مسافة قريبة من سكنى أم ميلاد، أرشدنا أحد المارة إلى مجموعة من العمال وهم منهمكون ببناء دار صغيرة ضمن العشوائيات، مبينا أن بعض الناس تبرعوا لأم ميلاد لبناء دار لها هنا. وتولى عدد من العوائل لجمع التبرعات لهذه الأرملة، موضحا "علمت بعض العوائل الميسورة بمأساة هذه الأرملة وعائلتها عن طريق وسائل الإعلام، وبعد معرفة أوضاع هذه العائلة فقمنا من ساعتها بأخذ مجموعة من الفرش والبطانيات لهم، ومن ثم اتصلت بعدد من المحسنين وجمعنا تبرعات لبناء دار سكنية صغيرة لهم".
"منطقتنا حافلة بالعديد من المآسي الإنسانية الأخرى"، أجابني أبو ماجد حين استفسرت منه أن كانت هنالك حالات مشابهة لحال عائلة هذه الأرملة العراقية، واصطحبني الشيخ المسن في جولة بين عدد من العوائل المعوزة التي تناثرت عشوائياتها المتواضعة المبنية بـ(البلوك). وأولى العوائل التي التقتها "العرب اليوم " مكونة من عجوز طاعنة في السن تتقاسم مع ابنتها المطلقة وحفيديها الصغيرين غرفة لا يسترها سياج عن دروب السابلة، وما أن ناداها دليلي باسمها: "عسلة.. يا عسلة.."، حتى خرجت تئن من أوجاع ما خلفته سنوات العوز والحرمان لتبادرنا بكلمات أقرب ما تكون إلى النحيب: "استرونا.. يستركم الله ويرحم أمواتكم".
وأوضح أبو ماجد أنه سبق أن وعدها قبل أيام بأن يبني لها سياجا حالما يتمكن من جمع تبرعات المحسنين، وطمأنها بأن "المبلغ اللازم لبناء السياج سيتدبر قريبا بإذن الله". وغير بعيد عن هذه العائلة رمى أبناء عاقون والديهم العجوزين في غرفة صغيرة قائمة في العراء دون شفقة، فلا هم يمدونهم باحتياجاتهم من طعام ودواء ولا هم يسمحون لهم باللجوء إلى دار العجزة، ويؤكد أبو ماجد انه أقنع الشيخ بالذهاب إلى (دار الوفاء) الحكومية التي توفر الرعاية للمسنين، ولكن زوجته ترفض ذلك خوفا من أبنائها الذين لا يقبلون أن (يعيرهم) الناس بذلك، ولذا بقوا هنا حيث يتصدق عليهم البعض بالزاد وببعض احتياجاتهم البسيطة.
والمتتبع لنشاطات جمعيات ومنظمات المجتمع المدني، يجد أن أغلب فعالياتها تصب في قناة واحدة تتمثل في تقديم المساعدات المالية والعينية للشرائح الفقيرة المسحوقة: أرامل، أيتام، مطلقات، معاقين، عاطلين عن العمل، وهلم جرا. ويبدو أن ظاهرة العوز المستشرية في المجتمع آخذة بالتفاقم حتى غدت معضلة كداء عصي على المعالجة من قبل الحكومات المتعاقبة في بلد يفاخر بغنى ثرواته المتعددة وموازناته المالية الضخمة، التي بدلا من أن توظف في برامج ومشاريع تنموية واجتماعية تحد من الفقر، ذهبت نتيجة الفساد المستشري في مفاصل الدولة لتصب في أرصدة اللصوص المتغلغلين في المشهد السياسي ومفاصل الدولة من شتى المكونات، وهذا ما دأبت الأوساط السياسية والاجتماعية نخبا وجمهورا على التصريح به طيلة الأعوام الماضية وما زالت ولكن دون جدوى.
وشكا ناشطو المجتمع المدني بدورهم تفاقم حجم العوز في المجتمع بالرغم من مساعي منظماتهم للتقليل من آثاره السلبية عبر تقديم المساعدات المتنوعة للشرائح الفقيرة، ولكنها تبقى متواضعة قياسا بالكم الكبير من المعوزين وضعف إمكانات هذه المنظمات، والأدهى من ذلك كما تؤكد أكثر من منظمة هو قيام مسؤولين في الحكومة المحلية بإحالة عدد من مراجعيهم من المعوزين والأرامل إلى هذه المنظمات لتقدم لهم المساعدة. والكثير من القصص وحالات الفقر، منها وجود ثلاث أرامل مع أطفالهن يسكن غرفة واحدة ضمن إحدى العشوائيات ويتخذن منها مناما ومطبخا وحماما في ذات الوقت، مبينا أن مشروع الباقيات الصالحات تبنى هؤلاء النسوة وقام ببناء غرفتين إضافيتين لهن ومطبخ ومرافق صحية وساعدهن بمجموعة من اللوازم والأجهزة المنزلية، إضافة إلى ماكنة خياطة لتأمين مورد رزق لهن.