بغداد ـ نجلاء الطائي
في دار المسنين لا ترى غير وجوه شاحبة سلبها خريف العمر وجحود الأقربين ملامح الجمال وبريق الحياة فأصبحت ذابلة مقطبة تملؤها تجاعيد الحزن والحسرة لا ترى غير هياكل بشرية خاوية تركها الأهل في عالم العزلة ليغتالها اليأس والاحباط.
في دار المسنين رأينا خلف هذه الوجوه قصصًا تحكي قسوة الإنسان وظلم أقرب الناس إليه، فالسيدة "أم ماجد"، 58 عامًا، لها حكايتها مع الجحود فقلبها يعصره الألم والحسرة، حيث تولى أشقاؤها إدخالها إلى المستشفى لتجري عملية جراحية في المعدة، وفي ذلك الوقت امتنع زوجها من زيارتها بحجة العمل والانشغال، إلا أنه كان منشغلا فعلا بامرأة أخرى.
وتقول أم ماجد: "فتح لها البيت ومنحها ثمرة تعبي وكفاحي معه لينشغل بها ويتركني ولا يسأل عني وولداي اللذان حذيا حذو أبيهما معي، بينما رفض أشقائي أن أعيش معهم أو يتكلفوا بمساعدة أختهم بل زجوا بي في دار العجزة رغم أنني لم أكن عاجزة ولا أعرف لماذا يفعلون بي هذا، لكن لا مكان لي غير هذه الدار.
وحكاية أبو محسن، 65 عامًا، كان موظفًا يسكن مع زوجته المسنة في غرفة صغيرة بالإيجار، ومضى على وجودهما أربع سنوات وله ستة أولاد، ثلاثة ذكور وثلاث إناث، وجميعهم أرباب أعمال وأصغرهم يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر.
وبالرغم من وضعهم المادي الجيد فقد تخلوا عن والديهم بذريعة حاجتهما إلى الرعاية الصحية، وإن كنا بحاجة إليهما فإن المرض العصبي لا يحتاج إلى نفينا وهجرنا، ويقول "أبو محسن"، حيث لم يزرهما أحد من الأولاد: "أليس هذا جحودا من أولادنا؟"، ويواصل أبو محسن كلامه: "لقد عملت الكثير وجاهدت حتى وصلوا إلى هذا المستوى، وكنت أعيش على أمل أن أجني يومًا نتاج زرعي لكنهم رمونا خارج بيوتهم متخلين عني وعن أمهم التي توفيت هنا دون أن يحضر أحد منهم، أنني حزين ومتألم جدًا، كيف لا يؤنبهم ضميرهم؟".
أما حكاية السيدة (فاطمة) 67 عامًا، وهي أرملة رفضت الزواج بعد رحيل زوجها في حرب العراق مع إيران لكي تتفرغ لتربية ولدها الذي أوغل في استغلالها ماديًا حتى تعرضت إلى حادث أقعدها عن العمل كخياطة.
وحين لجأت إلى بيته رفض أن يستضيفها ويرعاها، ما اضطرها إلى أن تلجأ للجيران، وعندما تدخلوا من أجل قيام الولد بواجبه تجاه والدته نقلها إلى دار العجزة وقطع صلته بها تمامًا".
ويقول عبدالكريم الهاشمي، ماجستير في علم النفس، من المهم أن يبقى المسن ضمن أسرته وبيئته، ونحن كمختصين في علم النفس ننصح بذلك لأن الإنسان، أي كائن حي يرفض انتزاعه من بيئته وسلخه من أسرته وتعرضه للأمراض، ولا يمكن التعذر بالظروف الاقتصادية أو السكنية أو غيرها من المبررات، حيث أن ذلك كله تنكرًا وجحودًا للأب والأم، وأنه بالإمكان أن ننظر إلى هذا الشخص على أنه غير مكتمل سواء من الناحية الدينية أو الدنيوية، فالدين السمح أوصانا بطاعة ورعاية الوالدين واحترامهما، فالقرآن الكريم والكتب المقدسة والأحكام السماوية والأحاديث النبوية الشريفة شددت على طاعة الوالدين ورعايتهما، (وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان).
هذا من الناحية الدينية أما من الناحية الدنيوية فالأعراف الاجتماعية والقيم الإنسانية النبيلة تحثنا على برهما وإعانتهما إذ أن الابن العاق لا يعتبر سويًا بالمفهوم الاجتماعي، وربما على صعيد شخصي أيضًا لأن الشخصية نتاج اجتماعي وبالتالي سيكون الابن شخصية مدانة اجتماعية.
ويضيف: "إن هذا الإنسان سيعيش دائمًا تحت وطأة الألم وضغط تأنيب الضمير وهذا في حد ذاته يولد له مشكلة نفسية ربما تتفاعل أكثر عندما يفقد والده الذي وضعه في هذه الدار من دون وجه حق وسينتظر مصير ما حدث لوالديه إن كان مصيره هينًا والمشاعر المؤلمة تكون أكبر قصاصًا للولد".
وتقول سعاد خورشيد من مواليد 1952: "دخلت إلى دار المسنين منذ شهرين بعد أن قررت ترك أولادي الثلاثة ، لأنهم مشغولون بعوائلهم ولا وقت لديهم للاهتمام بي وقبول انضمامي إلى أسرهم، فكل منهم يلقي بمسؤولية رعايتي على الآخر، رغم أن لي راتبًا تقاعديًا، ولم أكلف أحدًا منهم أي عناء أو عبء مادي يثقل كاهله، ولذلك لجأت إلى الدار ووجدت الرعاية والاهتمام من جميع العاملين فيها، وبدأت بتكوين علاقات اجتماعية مع بعض الزميلات معي، وأخرج بين الحين والآخر إلى السوق لأني كنت معتادة على ذلك قبل دخولي إلى الدار.
المتقاعد سامي عبد الجبار عبدالله، 76 عامًا، يعيش في دار المسنين منذ ثلاثة أعوام ونصف، قال: "فضلت الانتقال من دار الرشاد في منطقة الشماعية إلى دار الصليخ بعد انتقال الإدارة إلى هذا المبنى الجديد، لأن العدد فيه محدود، مبينًا أن سوء فهم بينه وبين زوجته أدى إلى انفصاله عنها، وبعد ذلك قامت بتحريض ابنها ضده ما أدى إلى تركه البيت والدخول إلى دار المسنين للابتعاد عن المشاكل وتبعاتها، وأشار عبد الجبار إلى حسن المعاملة من قبل الموظفين العاملين في الدار، وجودة الخدمات المقدمة من قبل القائمين على إدارة هذه المؤسسة، فهي مريحة وفيها اهتمام بالجانب الصحي لنزلاء الدار، فهو يعاني من انسداد بالبطين الأيمن للقلب ويحتاج إلى رعاية خاصة ومراجعة طبيبه الخاص كل شهر، وهذه الرعاية متوفرة ولا يعاني فيها من صعوبة".