لوحة "العصفور والثور والكرسي" وروان العدوان

نظّم غاليري «Pall Mall» بلندن معرضاً جماعياً لـ52 فناناً تشكيلياً من جنسيات مختلفة، لكنهم يقيمون جميعاً في المملكة المتحدة، وينتمون إلى مدارس فنية متعددة مثل التشخيصية، والواقعية، والسريالية، وسواها من المذاهب والتيارات الفنية المعروفة، لكن ما يهمنا من هذا العدد الكبير من الفنانين البريطانيين هو نتاج الفنانة الأردنية روان العدوان التي اشتركت بعملين فنيين، وهما «العصفور والثور والكرسي» و«الشجرة ذات الجذع الأبيض»، ولكن هذين العملين سوف يفضيان بنا إلى النبع الأول والمصادر الرئيسية التي استقت منها الفنانة موضوعاتها التي تُذكِّر بفنانين آخرين مثل الهولندي كارل آبل (Appel)، والأميركي جاكسون بولوك (Pollock)، ولا تُحيل إليهما مباشرة بسبب هُويتها الخاصة التي اجترحتها على مدى عقدين من الزمان أو يزيد.

قبل أن نتتبع الجذور، ونتقصّى المصادر الأولية التي أثرّت في الفنانة روان العدوان لا بد أن نتوقف عند هذين العملين المعروضين الآن في الصالة المذكورة سلفاً، لأنهما يُلقيان الضوء على ثيماتها من جهة، وأساليبها الفنية من جهة أخرى، وما بين الثيمة والأسلوب ثمة إيقاع داخلي لكل لوحة، ومناخ لوني متناغم على الرغم من عنف الفرشاة التي تنجز بها الفنانة خطوطها الخشنة التي لا تخلو من قسوة واضحة تتسق كثيراً مع حسِّها التعبيري في أثناء انغماسها بعملية الخلق والإبداع الفنيين.

تتبنى روان العدوان أكثر من أي مذهب فني في اللوحة الواحدة، فهي تجمع بين التشخيصية، والتعبيرية، والرمزية كما في لوحة «العصفور والثور والكرسي» التي رسمت عناصرها الثلاثة بطريقة تشخيصية (Figurative)، لكنها شَحَنتْها بقوة التعبير، وفعّلت فيها البُعد الرمزي الذي تجاوز البُعْدين السابقين، فأصبح اللامرئي مرئياً، فحينما ترى العصفور تستذكر الحرية والبهجة والأمل، وحينما تشاهد الثور تتجسّد أمامك القوة، والقدرة على التحمّل، والعمل الشاق، وحينما تُبصر الكرسيّ، خصوصاً إذا كنتَ عربياً أو من الدول النامية، تستحضر على حين غِرَّة السلطة والقمع والاستبداد. لا أحد يشكّ في رصانة الثيمة، وقوة التكوين، وطريقة المعالجة وما تنطوي عليه من بُعدٍ جمالي خالص يحضُّ على التفكير، ويحثُّ على إعمال الذهن، ويغري بإشعال المخيلة لكن الرهان الفني، من وجهة نظرنا كنقّاد، لا يقوم على الثيمة حتى وإن كانت قوية، رصينة ودراماتيكية، وإنما على الشكل وتقنياته، وطريقة معالجته، وأسلوب تقديمه إلى المتلقي الذي ينبغي أن يؤسس علاقته الخاصة في التعامل مع العمل الفني حينما يكون بحوزته كمُرسَل إليه يجب أن يستنفر حواسه، ومشاعره الداخلية، وقدرته على التواصل مع اللوحة بوصفها خطاباً بصرياً يحقق متعة ما إلى العين الخبيرة بـ"الفن التشكيلي" ولغته الإبداعية التي تحتاج إلى نوع من الحنكة والمتابعة والمران البصري. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن الفنانة روان العدوان توازن كثيراً بين الشكل والمضمون في محاولة أصيلة لاستدراج المتلقي إلى الاستمتاع بالمبنى والمعنى في آنٍ معاً من دون أن ننسى أن اشتراطات اللعبة الفنية ترجِّح كفّة الشكل على كفّة المضمون، لأن المعاني مُلقاة على الأرصفة، وهي في متناول الجميع تقريباً. ما يلفت الانتباه في هذه اللوحة أن الثور البري يتوسط اللوحة ويهيمن على سطحها التصويري، والأهمّ من ذلك كله أنه يتطلّع بعيني المُشاهد وهو يقوم بنطح الكرسي، في محاولة لتحطيمه وإخراجه من الخدمة نهائياً. إن المدقق في أرضية هذه اللوحة سيكتشف أنها متموجة، ولعلها تنوء تحت ثقل قوائم هذا الثور القوي، الأمر الذي منحها مشهدية حركيّة لم تأتِ عفو الخاطر وإنما تعمدتها خالقة هذه اللوحة ومُبدعتها وكأنّ عقلها الباطني يحفِّز الناس على الثورة ووضع حدٍ للسلطة القامعة بكل أشكالها، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم دينية. أما العصفور الذي استعار لونه البنّي من الثور، فقد بدا عملاقاً هو الآخر، في إشارة واضحة إلى كِبَر معنى الحرية وعظمتها كهدف نبيل يسعى الناس إلى تحقيقها في كل مكان من أرجاء هذه المعمورة. 

أشرنا في غير مرة إلى أن روان هي فنانة تعبيرية تستنطق في كل عملٍ فني مشاعرها الداخلية، وأحاسيسها المُرهفة، وحالاتها الذهنية التي تسيطر عليها في أثناء عملية الإبداع، ولعل هذه الضربات اللونية العنيفة للفرشاة هي تجسيد للغليان الذي يتصاعد في أعماقها، أما خلفية اللوحة فقد حكّتها بمسمار أو آلة مدببة أخرى لتصنع هذه الدوائر المتداخلة والأشكال اللولبية التي تعبِّر عن عمق وشدّة الانفعالات النفسية لهذه الفنانة المتماهية مع الحدث الجلل الذي تُجسّده على الكانفاس وتندغم في تفاصيله الصغيرة والكبيرة على حد سواء.

أما اللوحة الثانية، وهي «الشجرة ذات الجذع الأبيض»، فهي لا تختلف عن سابقتها من حيث التشخيص والرمز والمناخ التعبيري الذي تداخلت فيه بعض اللمسات التجريدية للقسم العلوي من الشجرة الذي بدا متناسقاً مع فضاء العمل الفني برمته. هذه الشجرة المُحتفية بعزلتها تُذكِّرنا بغابة مكتظة، ولعل فرادتها تكمن في هذا البياض الناصع الذي يسرق عين الناظر من قبّعة الشجرة إلى جذعها المتين، وجذورها الضاربة في أعماق الأرض. أما الألوان المهجّنة التي تحيط بالشجرة مثل هالة مستديرة فمنبعها الأرض والبيئة المكانية التي تزوّد الفنانة بالألوان الصحراوية والترابية التي استقرت في ذاكرتها الفردية، ولم يعد بالإمكان إزاحتها أو الاستعاضة عنها بألوان غربية بديلة، رغم أنّ روان تعيش في لندن منذ خمس سنوات تقريباً.

أفادت روان كثيراً من «الرسوم الصخرية الصفائية» التي تعود في أقل تقدير إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وهي رسوم ونقوش نفّذها فنانون صفائيون بطريقة بدائية، لكنها لا تخلو من جرأة هي الأقرب إلى جرأة الأطفال وحريتهم في الرسم، وقد تمّ اكتشاف الآلاف من هذه الرسوم والنقوش الصفائية المنحوتة على صخور البازلت البركاني في جنوب سوريا، وشمال شرقي الأردن. وليس من قبيل المصادفة أن تذهب روان إلى منطقة «الصفاوي» في شمال شرقي الأردن، لتقع على هذا الكنز الهائل من «لآلئ الصحراء» كما سمتها في معرض فني لها، فقد عملت في المتحف الأردني بعمّان وعثرت على كتاب قيّم يضم هذه الرسوم والنقوش الصفائية فقررت دراستها، ومشاهدتها على أرض الواقع، وإعادة رسمها بالألوان أو «بثّ الحياة فيها من جديد»، كما تقول الفنانة، في محاولة جدية للحفاظ على هذا الإرث البدوي القديم.

يستطيع أي فنان أن يستثمر موروثه الفني القديم ويستلهم منه ما يشاء، لكن عملية الاستنساخ أو النقل الحرفي تبقى مثار جدل قانوني خصوصاً إذا أقدمَ الفنان على توقيع اللوحة باسمه وأسقطَ عنها حق المبدع الأول لها حتى وإن كان فناناً بدائياً يعود تاريخه إلى القرن الثاني قبل الميلاد، لكن حقوق المِلكية يجب أن تبقى محفوظة له بوصفه خالقاً لهذه الرسوم والنقوش القديمة. 

لا تقتصر مرجعيات الفنانة روان العدوان على الموروث الصفائي القديم وإنما تستمد موضوعاتها، وتقنياتها، ومقارباتها الفنية من البيئة المحيطة بها أنّى حلّت أو ارتحلت، فألوان مثل الأحمر، والأزرق، والأصفر، والبنّي الساطع، والأوكر بدرجاته المختلفة مُستقاة من البيئة المحليّة في غور الأردن، وعمّان، والصفاوي وغيرها من المدن الأردنية التي تزورها، وتتمثل تفاصيلها الجغرافية المتنوعة بعين الفنانة التشكيلية الخبيرة التي تلتقط المشاهد الغريبة، والمدهشة التي قد تمرّ على الناس العابرين مرور الكرام.