الرئيس الراحل هواري بومدين

42 عاما تمر على رحيل الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين الذي بقيت مسيرته وأقواله خالدة في ذاكرة الجزائريين.

ومرت، الأحد، الذكرى الـ42 لرحيل بومدين الذي توفي في 27 ديسمبر/كانون الأول 1978، بعد محطات ثورية وقيادية ورئاسية حافلة.

محطات مضيئة أدخلت ثاني رئيس للجزائر التاريخ من أوسع أبوابه، وأبقته في قلوب ملايين الجزائريين، حتى عند الأجيال التي لم تعاصر عهده الذي دام 13 عاماً (1965 – 1978).

يلقبه الجزائريون بـ"الموسطاش" أو "صاحب الشوارب" بالعربية، أو "الزعيم"، أو "الرئيس الذي لم يتكرر"، بعد أن عاشت البلاد فترة حكمه "عصرها الذهبي دبلوماسياً واقتصادياً".

في عهده، تغير كل شيء في الجزائر، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ودبلوماسياً، انتقلت معه الجزائر من دولة حديثة الاستقلال تصارع من أجل البقاء إلى دولة فاعلة إقليمياً ودولياً.

جنازة الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين

شخصيته سحرت وألهمت الجزائريين بكاريزما ثورية وسياسية وقومية صارمة ولا مكان معها لخيانة الوطن أو للفساد، استبقت أفعاله أقواله التي ظلت خالدة، بعد أن كان أول رئيس جزائري يرسخ مبدأ أن "الدولة لا تزول بزوال الرجال".

كان أول زعيم عربي وإسلامي يفتتح خطابه في الأمم المتحدة بـ"البسملة"، وأعطى اللغة العربية مكانتها الحقيقية في بلاده، وحققت الجزائر في عهده نجاحات دبلوماسية بقيت راسخة، ودفع بالجيش الجزائري للمشاركة بقوة في الحربين العربية الإسرائيلية، وكان من أشد المدافعين عن القضية الفلسطينية.

وبعد 42 عاماً من رحيل الرئيس ذو النزعة الاشتراكية والثورية والقومية العربية، بقيت تساؤلات كثيرة لم يجد الباحثون والمؤرخون إجابات لها، عن أحداث بدايات حكمه أبرزها اغتيال بعض قادة الثورة التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي، وأخرى من نهاية حكمه تعلقت بحقيقة وفاته "مسموماً".

وتداول الجزائريون منذ، السبت، هاشتاق "#لن_ينساك_الجزائريون" عبروا من خلاله عن تعلقهم بمن يعتبرونه "الزعيم الذي مات ولم يرحل دون أن يتكرر".

ونشر رواد مواقع التواصل الاجتماعي صوراً للرئيس الجزائري الراحل، بعضها بـ"البرنونس" الذي كان لباس بومدين المفضل وهو لباس تقليدي جزائري يرمز للأصالة والرجولة.

وأخرى يحمل بيده "السيجار الكوبي" الذي كان كذلك المفضل عند الرئيس الجزائري الراحل، وبعضها كُتب عليها عبارات لا زالت خالدة في الذاكرة الجماعية للجزائريين وحتى من مبادئ الجزائر في سياستها الخارجية.

كان من أبرزها "الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، "نريد أن نبني دولة لا تزول بزوال الرجال"، بالإضافة إلى شهادات تاريخية عن الدور الذي لعبه هواري بومدين في الحربين العربية الإسرائيلية عامي 1967 و1973.

كما أعاد الجزائريون تداول صور لرئيسهم الأسبق مع بعض الزعماء العرب الذين دخلوا التاريخ أيضا من أوسع أبوابه، أبرزهم الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، والعاهل السعودي الراحل الملك فيصل.

لم يخل استذكار الجزائريين للراحل هواري بومدين من جملة الألقاب التي أطلقوها عليه، عبروا فيها عن حزنهم لخسارة بلادهم "رئيساً بدون نسخة أخرى" كما قالوا، وكذا فخرهم بمواقف وإنجازات الرجل.

ولعل أشهر لقب يطلق على الرئيس الراحل هواري بومدين هو "الموسطاش"، أو "صاحب الشوارب"، وهي الشوارب التي لها دلالات عميقة في الموروث الشعبي الجزائري عن الرجولة والشهامة والأصالة.

بالإضافة إلى ألقاب أخرى، بينها "أسد الجزائر"، "رئيس مكة الثوار"، "الزعيم"، "سيد الرجال"، "أبو الفقراء والمساكين" وغيرها من الألقاب.

أبانت تعليقات ومنشورات الجزائريين عن حجم تعلقهم بالرئيس الأسبق هواري بومدين، التي لم تخل جميعها من التذكير بعباراته ومواقفه الخالدة خصوصاً ما تعلق منها بدفاعه عن القومية العربية والنجاحات التي حققتها الدبلوماسية في عهده.

هواري بومدين وياسر عرفات رحمهما الله

كان من بينها الخطوة التاريخية التي مهدت للاعتراف الدولي بالقضية الفلسطينية بعدما دعت الجزائر الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لإلقاء كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974.

والوساطة التي قادها هواري بومدين بين العراق وإيران عام 1974 على هامش اجتماع قادة الدول المصدرة للنفط "أوبيك" بالجزائر العاصمة.

وفي ذكرى رحيله الـ42، تذكر الجزائريون "زعيمهم الراحل" بمشاعر متناقضة، لـ"الحزن" عن خسارته، و"الحسرة" على "العصر الذهبي الذي لم يتكرر"، والفخر بـ"رئيس صنع للجزائر مكانة بين الأمم".

وفي 2010، كشفت وثيقة مسربة حقيقة المثل الذي قاله بومدين عاماً قبل رحيله "عاش ما كسب مات ما خلا" (لم يكسب المال والجاه في حياته ولم يترك شيئا بعد مماته).

الوثيقة وضحت قيمة المدخرات المالية التي تركها هواري بومدين بعد رحيله، وبلغت قيمتها 690 دينارا جزائرياً أي ما يعادل 5.22 دولار أمريكي.
زعيم الجزائر

هواري بومدين هو ثاني رئيس في تاريخ الجزائر المستقلة، ولد في 23 أغسطس/آب 1932، واسمه الحقيقي "محمد إبراهيم بوخروبة"، التحق بصفوف جيش التحرير الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي مباشرة بعد اندلاع الثورة في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1954.

تلقى تدريبه العسكري في مصر، قبل أن يصبح أول قائد لأركان الجيش الجزائري عام 1958، ثم أول وزير للدفاع غداة استقلال الجزائر 1965، ثم نائباً للمجلس الثوري في عهد أول رئيس وهو أحمد بن بلة.

في 19 يونيو/حزيران قاد انقلاباً عسكرياً على الرئيس أحمد بن بلة، سمي حينها بـ"التصحيح الثوري".

وقاد بعدها هواري بومدين ثورة سياسية وصناعية واقتصادية وزراعية، سميت حينها بـ"الثورة الزراعية" عندما قام بتوزيع آلاف الهكتارات على الفلاحين وأسس آلاف القرى الفلاحية.

كما اتخذ عدة قرارات جريئة أبرزها تأميم المحروقات عام 1972، وتبنى الاشتراكية نهجاً اقتصادياً، أنشأ خلالها مصانع ثقيلة ساهمت في تقليص فاتورة البلاد من الاستيراد، وفتحت أسواقاً جديدة لها في عدة دول أفريقية وعربية.

وأطلق عدة مشاريع أخرى كبرى في قطاعات التعليم والثقافة خصص لها أكثر من ثلث موازنة البلاد، بالإضافة إلى مشاريع القرى والفنادق وإنشاء السد الأخضر، وارتفعت بعد ذلك نسبة النمو إلى 9 % عام 1975، كان أعلى معدل نمو عالمي خلال تلك الفترة.

في المجال الدبلوماسي، سجلت الجزائر عصرها الذهبي فترة حكم هواري بومدين، كان حينها عبد العزيز بوتفليقة وزيرا لخارجيته، تبنى خلالها قضايا تصفية الاستعمار، واستضافت الجزائر قمة عدم الانحياز عام 1974 وقمة منظمة أوبك عام 1975.


كما عقدت الأمم المتحدة اجتماعاً طارئاً عام 1974 بطلب من بومدين لمناقشة نظام اقتصادي عالمي جديد.

وفي 27 ديسمبر/كانون الأول 1978 شيع جثمان الرئيس الراحل هواري بومدين في جو مهيب قال عنه الجزائريون إنه "لا يليق إلا بالزعماء"، بعد أن قضى نحو شهر في العلاج بالاتحاد السوفياتي من مرض نادر رجح الأطباء أن يكون ناجماً عن تسمم.

"وراء كل رئيس جزائري زوجة مجهولة"، هكذا ظهر معظم الرؤساء الذين حكموا الجزائر طوال استقلالها، محاطين بكبار المسؤولين والحرس الشخصي وقوات الأمن، دون أن تكون زوجاتهم من بين الحاضرين.

وباستثناء رئيسين فقط، لم يتعرف الجزائريون على زيجات بقية الرؤساء الـ6 بمن فيهم الحالي عبد المجيد تبون، وظل معها مصطلح "سيدة الجزائر الأولى" غائباً عن المشهدين السياسي والإعلامي، وبقيت تلك الزوجات في منازلهن كغيرهن من سيدات الجزائر بعيدات عن الأضواء.

وتعاقب على حكم الجزائر منذ استقلالها عام 1962، 8 رؤساء، لم تظهر إلا زوجات اثنين من الرؤساء فقط، لا يُعرف إن كسرتا تقليداً محلياً، أو أن ابتعاد بقية زوجات رؤساء الجزائر عن المشهد هو "التقليد والعرف" في حد ذاته.
أنيسة بومدين

في 19 يونيو/حزيران 1965، قاد وزير الدفاع الجزائري الأسبق هواري بومدين انقلاباً على أول رئيس للجزائر وهو أحمد بن بلة، لتشهد البلاد بعد ذلك مرحلة مختلفة ومفصلية عرفت نهضة اقتصادية واجتماعية وسياسية.

وتعرف الجزائريون عن قرب على شخصية هواري بومدين العسكرية والثورية بحكم مشاركته في الثورة التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي.

كانت شخصية مختلفة، قوية وحازمة، وبملامح وجه قاسية، وتداول معها الجزائريون قصص تمكن الراحل هواري بومدين من مسك زمام الأمور وتحصين حكمه بقرارات جريئة وشخصيات تصنف من "الوزن الثقيل".


ومع الأعوام الأولى لاستقلال البلاد، لم يسمع أو يتعود الجزائريون على مصطلح "سيدة الجزائر الأولى" أو رؤية زوجة رئيسهم، حتى إنها كانت ربما "من المحرم الحديث عنها".

كان حينها هواري بومدين الملقب بـ"الموسطاش" (الشوارب) رئيساً أعزب، أنسته "هموم الحكم" في إكمال نصف دينه، أو كان ينتظر الوقت المناسب ليدخل إلى "قفص الزواج الذهبي" كما دخل إلى قصر "المرادية" الرئاسي.

انتظر بومدين 8 أعوام من بدايات حكمه ليختار شريكه حياته، وكان ذلك عام 1973، لكنه لم ينتظر طويلا ليخرجها من كواليس بيت الزوجية إلى عالم السياسة، لترافق مسيرة بومدين 5 أعوام وهو في أوج عطائه.

ظهرت أنيسة بومدين واسمها الأصلي أنيسة المنصلي للمرة الأولى عام 1973، خلال استقبال بومدين نظيره من الكونغو الديمقراطية (زائير سابقاً) موبوتو سيسيسيكو.

ليخرج معها إلى العلن أيضا وللمرة الأولى مصطلح "سيدة الجزائر الأولى" التي رافقته في جولاته الدولية واستقباله لقادة الدول، وحرصت خلالها على ارتداء الأزياء التقليدية النسوية الجزائرية، خصوصاً "القفطان والكاراكو العاصمي".

 درست "أنيسة" الحقوق في جامعة الجزائر وأكملت دراسة العام الأخير بجامعة "السوربون" في العاصمة الفرنسية باريس، وكانت البنت الوحيدة لعائلتها التي كانت من أغنى العائلات الجزائرية قبل أن يصادر الاحتلال الفرنسي ممتلكاتها.

بعد وفاة بومدين في ديسمبر/كانون الأول 1978 غابت زوجته عن الأنظار، قبل أن تظهر مرة أخرى بداية تسعينيات القرن الماضي، لتكشف عما أسمته "التضييق الذي مورس عليها" في عهد الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، وطردها من منزلها، وتقرر الاستقرار في باريس.

بعد وفاة بومدين، تولى العقيد الشاذلي بن جديد رئاسة الجزائر، كانت شخصية مختلفة تماماً عن سلفه رغم تكوينه العسكري.

لم يكن الجزائريون يعرفون عنه الكثير، لكنه ظهر بشخصية هادئة وقليلة الظهور مقارنة بالراحل هواري بومدين.

ورغم ما قيل عن سعيه لـ"طمس كل الإنجازات التي ترمز لسلفه بومدين" فإنه حافظ على عُرفٍ رسخه هواري بومدين، وظهر الشاذلي بن جديد منذ بدايات حكمه برفقة زوجته.

حليمة الشاذلي واسمها الأصلي حليمة بوركبة، كانت ظل زوجها الرئيس مع كل ظهور رسمي له، عرفها الجزائريون بأناقتها وفساتينها المستمدة من التراث الجزائري.

ساهم ظهور الزوجتين أنيسة وحليمة في تحسين صورة بلد حديث الاستقلال، قيل حينها إنه "ثوري لكنه حداثي، لا عقدة له مع ثقافة الغرب حتى وإن اختار المعسكر الشرقي حليفاً له".

ولم تذكر الحقائق التاريخية أي دور لهما في صناعة القرار أو التأثير على أزوجاهم الرؤساء.

غير أن ذلك الظهور الأنيق لزوجة بن جديد لم يكن كـ"سيدة المرادية الأولى أنيسة بومدين"، فقد تحولت بسرعة البرق ولأسباب غريبة إلى "المصدر الأول لنكت الجزائريين" ما زالوا يتداولونها إلى يومنا.

وباتت تلك النكت ما يشبه من "الموروث الثقافي" الجزائري، وأي نكتة إلا وفيها اسم "حليمة" أو زوجها الرئيس.

واعتبر أكاديميون أن سبب "سخرية" الجزائريين من "حليمة" مرده الأخطاء اللغوية التي كان يقع فيها الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد عندما كان يخاطبهم أو يتحدث للإعلام الرسمي.

وأكثر خطأ اشتهر به ولا يزال متداولاً عند الجزائريين، عندما قال "الدولة التي ليس لها مشاكل ليست دولة، والحمد لله ليس لدينا مشاكل".

بعد استقالة الشاذلي بن جديد في يناير/كانون الثاني 1992، ودخول الجزائر في أتون حرب دموية قادتها "الجبهة الإرهابية للإنقاذ" الإخوانية المحظورة، لم تدخل بعدها زوجة الرؤساء الذين حكموا الجزائر بعد ذلك إلى القصر الرئاسي.

ربما لم تسمح السنوات الثلاث الوحيدة من حكم أحمد بن بلة أول رئيس للجزائر من إظهار زوجته بسبب الانقلاب عليه، وكذا الرئيسان الأسبقيَان الراحلان محمد بوضياف (يناير 1992 – يونيو 1992) وعلي كافي (يونيو 1992 – يناير 1994) بسبب الوضع الأمني والسياسي.

وكان الحال ذاته مع الرئيس الأسبق اليامين زروال الذي فضل عدم اكمال ولايته الرئاسية وانسحب من السطلة عام 1999 دون أن يتعرف الجزائريون على زوجته أو حتى اسمها.

لكن مع مجيء الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة توقع الجزائريون إعادة ذلك العُرف الذي كان يمثل لهم "واجهة استقرار سياسي"، بعد أن ارتبط ظهور زوجات الرؤساء السابقين بالأمن والاستقرار طوال 30 عاماً الأولى من استقلال بلادهم.

الراحل محمد بوضياف رئيس المجلس الأعلى للدولة الأسبق في الجزائر

توقع الجزائريين اعتمد على تاريخ وشخصية بوتفليقة، فقد كان أبرز وزراء هواري بومدين (وزير الخارجية)، ومتأثراً بالثقافة الغربية.

غير أن الأنباء تضاربت بعد ترشحه لرئاسيات 1999، بين من قال إنه تزوج من شقيقة رئيس الوزراء الأسبق علي بن فليس وبن روايات أخرى انقسمت بين من تحدثت عن وجود زوجة أجنبية وأخرى جزمت بأن الرجل لا يزال أعزب.

بوتفليقة الذي حطم الرقم القياسي في عدد سنوات حكمه للجزائر بـ20 سنة متتالية، لم يسر على النهج ذاته الذي عاصره مع من كان يعتبره قدوته وهو الراحل هواري بومدين.

الرئيس الجزائري الأسبق اليامين زروال

فلم يتعرف الجزائريون لا على زوجته ولا على أولاده، لكنه اختار نوعاً آخر من "حكم العائلة"، عندما أدخل أشقاءه الـ4 إلى قصر "المرادية" الرئاسي، كـ"مستشارين له".

فسر متابعون وباحثون ذلك بشخصية بوتفليقة التي كانت تعرف الكثير عن دهاليز الحكم في الجزائر، وغير "الواثقة بوجوه أبعدته عن الساحة واتهمته بالسرقة بعد وفاة بومدين".

الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة مع فتيات في عيد المرأة

وبعد تدهور وضعه الصحي، بدل أن يتعرف الجزائريون على "سيدة الجزائر الأولى"، خرج عليهم "حاكم الجزائر من وراء الستار"، لم يكن ذلك إلا شقيقه ومستشاره الخاص "السعيد بوتفليقة" الذي ارتبط اسمه فيما بعد بـ"كل قضايا الفساد" التي لم تشهد لها البلاد مثيلاً في تاريخها كما يقول الجزائريون.

ومنذ ذلك الوقت، باتت صفة أي قرابة برئيس الجمهورية مهما كانت طبيعتها باتت محط شك وتشكيك وريبة الجزائريين كما يرى المراقبون، خصوصاً وأن فترة بوتفليقة شهدت "بروز عائلات ثرية بأكملها بأسماء كان الجزائريون يجهلونها وباتوا يحفظونها وحتى يلعنونها بعد حراك 22 فبراير/شباط 2019".

ويبدو أن ذلك كان كافياً للرئيس الجزائري الحالي وهو ثامن رئيس للبلاد، أن يُبعد زوجته عن الأنظار، رغم ورود اسم نجله في شبهة قضية فساد، قبل أن تبرئه محكمة "سيدي أمحمد" فبراير/شباط الماضي.

توجه الجزائريون، اليوم الأحد، إلى صناديق الاقتراع في "تاسع استفتاء شعبي" على تعديل الدستور منذ استقلال البلاد قبل 58 عاماً.

وعلى مدار الأعوام الـ58، عرفت الجزائر 9 تعديلات دستورية بينها 6 تم تمريرها عبر الاستفتاء الشعبي خلال سنوات حكم 7 رؤساء للجزائر بمعدل "تعديل دستوري لكل رئيس تقريباً"، فيما شكّل الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة الاستثناء.

أبرز تلك التعديلات كانت في عهد بوتفليقة والتي انتقدها المتظاهرون خلال مسيرات الحراك الشعبي التي أجبرته على التنحي في أبريل/نيسان 2019، حتى إن الأمر تحول إلى نكتة شعبية من خلال اللافتات الساخرة التي حملها متظاهرون وذكرت بأن "الدستور ليس كراس محاولات".

    بدء التصويت على "جزائر جديدة"

استثناء بوتفليقة لم يكن بتحطيمه الرقم القياسي في عدد سنوات حكمه للجزائر بـ20 سنة متتالية عبر 4 ولايات رئاسية، بل أيضا من حيث التعديلات الدستورية التي بلغت 3 طوال تلك الفترة، لم يمرر أي منها للاستفتاء الشعبي، واكتفى بـ"الضوء الأخضر" للبرلمان، مستفيداً من دعمه من قبل الأغلبية البرلمانية.

ويعزو الخبراء القانونيون والمتابعون للشأن السياسي الجزائري، أسباب كثرة التعديلات الدستورية في ظرف 58 عاماً إلى ارتباطها بأحداث سياسية واقتصادية واجتماعية حتمت على صناع القرار التكيف معها لتحديد المسار السياسي للبلاد.

وتزامن كل مسار محدد مع أزمات سياسية مرت بها البلاد مثل أزمات نهاية الثمانينيات وفترة التسعينيات وآخرها منذ 2019 عقب استقالة بوتفليقة، أو لـ"تعزيز المكاسب الديمقراطية وتعميق الإصلاحات السياسية" وفق الروايات الرسمية.

وفي الجزائر، يعتبر الدستور أسمى قانون وضعي للدولة، وتذكر ديباجته التي لم تتغير كثيرا منذ 1989 بأن الدستور "فوق الجميع، وهو القانون الأساسي الذي يضمن الحقوق والحريات الفردية والجماعية، ويحمي مبدأ حرية اختيار الشعب، ويضفي الشرعية على ممارسة السلطات، ويكفل الحماية القانونية، ورقابة عمل السلطات العمومية في مجتمع تسوده الشرعية، ويتحقق فيه تفتح الإنسان بكل أبعاده".


وفي هذا التقرير تستعرض "العين الإخبارية" أبرز التعديلات الدستورية التي عرفتها الجزائر منذ استقلالها عام 1962 إلى غاية 2020.
دستور أحمد بن بلة.. 1963

هو أول دستور تقره الجزائر بعد عام من نيل استقلالها، في عهد أول رئيس للبلاد وهو الراحل أحمد بن بلة، كرس التوجه الاشتراكي للجزائر، وأعطاها تسميتها الرسمية الحالية "الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية".

تطلب الإعداد لأول دستور بعد استقلال الجزائر فترة انتقالية مدتها عام وهيئات مؤقتة أشرفت على إعداده وتسيير البلاد.

واستبق الاستفتاء على تعديل الدستور بانتخاب مجلس تأسيسي في 20 سبتمبر/أيلول 1962، عين على رأسه أحد قادة الثورة التحريرية وهو بن بلة.

في 8 سبتمبر/أيلول 1963 عرض بن بلة أول مشروع للدستور على الجزائريين، حدد طبيعة الحكم في النظام الجمهورية والديمقراطية الشعبية، وإقرار النظام الاشتراكي لتسيير اقتصاد البلاد، مع حصر أداء الشعب في "الحزب الواحد" الذي كان "حزب جبهة التحرير الوطني".

صوت الجزائريون بالأغلبية الساحقة على دستور بن بلة، الذي تضمن أيضا إقرار الحقوق والحريات وفقاً للتوجه الاشتراكي، وحدد مؤسسات البلاد السيادية في المجلس الوطني والسلطة التنفيذية والعدالة، وكان حينها رئيس الجمهورية يجمع منصب رئيس الحكومة.

بعد أن قاد العقيد هواري بومدين وزير الدفاع الأسبق انقلاباً عسكرياً على بن بلة، تم تجميد العمل بالدستور، وأمر بومدين بإعادة تحديد آليات ممارسة السلطة، وقرر الاستحواذ على كافة الصلاحيات في "مجلس الثورة" الذي كان مكوناً من 26 عضواً.

قاد ذلك المجلس الجزائر لأطول فترة انتقالية في تاريخ البلاد دامت 11 عاماً، كانت فيها الحكومة أداة تنفيذية لمجلس الثورة، مع إنشاء هيئات استشارية عليا اقتصادية واجتماعية.

وعشية احتفال الجزائر بالذكرى الـ13 لاستقلالها، أعلن الرئيس الأسبق الراحل هواري بومدين في يوليو/حزيران 1976 اعتزامه العودة إلى الشرعية الدستورية، أصدر خلالها "ميثاقاً مؤقتاً" كمصدر أعلى لسياسة الدولة وقوانينها.

ودعا في الوقت ذاته قياديين من الحزب الحاكم لإعداد دستور جديد للبلاد، وتم عرضه على ثاني استفتاء شعبي وثاني تعديل دستوري في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1976، وحصل على الأغلبية الشعبية.

لم يختلف دستور بومدين عن سلفه بن بلة كثيراً، حيث عزز قبضة الحزب الحاكم آنذاك بعد أن منحه صلاحيات مطلقة في تسيير السلطات الثلاث، وثبّت النهج الاشتراكي نظاماً للدولة.

لم يأت ثالث تعديل دستوري في الجزائر إلا نتاجاً لمخاضات داخلية وخارجية أربكت نظام الرئيس الأسبق الراحل الشاذلي بن جديد.

وأجبرت أحداث 5 أكتوبر 1988 التي سقط فيها عشرات الضحايا الرئيس بن جديد على الاستجابة لمطالب المتظاهرين، والتي تزامنت مع بداية تراجع النظام الاشتراكي عالمياً ودخول الجزائر في أزمة اقتصادية خانقة.

في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1988 عرض الشاذلي بن جديد على الجزائريين ثالث تعديل دستوري حاز الأغلبية المطلوبة، شملت تعديلاته تحديد صلاحيات رئيس الجمهورية وطريقة انتخابه عن طريق الاقتراع المباشر، وإنشاء مجلس للمحاسبة لمراقبة نفقات الدولة والحزب الحاكم والمجالس المحلية، وإنشاء منصب "رئيس الحكومة" للمرة الأولى وتحديد مسؤولية الحكومة أمام البرلمان.

كان رابع تعديل دستوري واستفتاء شعبي في تاريخ البلاد، وأول دستور يقر التعددية الحزبية والإعلامية في الجزائر، بعد تصويت أغلبية الناخبين عليه في 23 فبراير/شباط 1989.

شكل ذلك الدستور أول تحول سياسي واقتصادي في تاريخ الجزائر، انتقلت من خلاله من نظامين سياسي واقتصادي إلى نظامين مختلفين، إذ انتقلت من نظامي الحزب الواحد والاشتراكية إلى التعددية السياسية واقتصاد السوق.

اعتبره الحقوقيون أحسن دستور في تاريخ الجزائر، لما تضمنه من هامش كبير للحقوق والحريات الفردية والجماعية، والفصل بين السلطات.

لكن منتقديه يرون أنه فرض على الجزائريين "تغييرا راديكالياً لنظامين سياسي واقتصادي" أحدث صدمة سياسية واقتصادية وحتى أمنية، واستغلته "الجبهة الإرهابية للإنقاذ" للوصول إلى السلطة، قبل أن تدخل الجزائر في أتون حرب دموية مع الجماعات الإرهابية، أوقف على إثرها المسار الانتخابي، وتجميد العمل بالدستور.

خرج دستور 28 فبراير/شباط 1996 من رحم أخطر أزمات أمنية وسياسية واقتصادية عرفتها الجزائر في تاريخ الحديث، قاد خلالها البلاد الجنرال المتقاعد اليامين زروال، وهي الفترة التي عرفت بـ"العشرية السوداء".

رغم قلة خبرته السياسية إلا زروال فتح باب النقاش مع الطبقة السياسية لتعديل دستور 1989 بما يتماشى مع طبيعة التحديات التي واجهتها الجزائر خلال تلك الفترة.

عده الخبراء القانونيون واحداً من أحسن الدساتير الجزائرية، بعد أن حاز أغلبية الأصوات في خامس استفتاء شعبي على الدستور بالجزائر.

منع ذلك الدستور للمرة الأولى إنشاء الأحزاب والجمعيات على أسس دينية أو لغوية أو عرقية أو جنسية أو مهنية أو جهوية، ما اضطر عدة أحزاب لتغيير أسمائها، كما أنشأ مجلس الأمة (مجلس الشيوخ) والمحكمة العليا ومجلس الدولة، ووسع الصلاحيات الرقابية للجل الدستوري.

بعد 3 سنوات من انتخابه عام 1999، عرض الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة أول تعديل دستوري في عهده على البرلمان، كان ذلك في 10 أبريل/نيسان 2002، وسميت بـ"المراجعة الدستورية".

أدرج فيه للمرة الأولى اعترافاً بالأمازيغية "لغة وطنية"، أضاف خلالها مادة دستورية ورد فيها "تمازيغت هي لغة وطنية تعمل الدولة على ترقيتها وتطويرها بكل تنوعاتها اللسانية عبر التراب الوطني".

من أكثر التعديلات الدستورية التي أثارت الكثير من الجدل سواء فترة بوتفليقة أو منذ استقلال البلاد، مرره مثل الأول على البرلمان دون اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي.

سمي بـ"دستور فتح العهدات" أو "دستور خلود بوتفليقة في الحكم" وفق المراقبين، حيث قرر بوتفليقة تعديل المادة الدستورية التي تحدد ولايات الرئيس باثنتين غير قابلة للتجديد.

وفي 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2008 صوت أغلبية نواب البرلمان على تعديل المادة 74 من دستور 1996، أقرت خلالها فتح العهدات الرئاسية، مع تعديلات جزئية أخرى لحماية رموز الثورة وترقية كتابة التاريخ وتدريسه وترقية الحقوق السياسية للمرأة، واستحدث بموجبه منصب "وزير أول" وألغى العمل بمنصب "رئيس الحكومة".

الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة
دستور بوتفليقة الثالث.. 2016

 "من أغرب التعديلات الدستورية" التي عرفتها الجزائر وفق تعبير خبراء قانونيين، حيث صادق البرلمان الجزائري بالأغلبية في 7 فبراير/شباط 2016 على العودة إلى دستور 1996 فيما يتعلق بعهدات الرئيس.

ألغى التعديل فتح العهدات الرئاسية لرئيس البلاد، وأعاد تحديدها بولايتين اثنتين غير قابلتين للتجديد بالتزامن مع تدهور الوضع الصحي لبوتفليقة وغيابه عن المشهد السياسي، وبعد أن تمكن من الظفر بولايتين جديدتين.

قد يهمك ايضا:

ترامب يحذّر إيران من مهاجمة الأميركيين في العراق

علي سماكة يُبيّن أنّه يعتزم الترشيح لرئاسة اللجنة الأولمبية العراقية