الجزائر _ الجزائراليوم
صدر حديثا كتاب جماعي بعنوان ” إشكالية الهوية: دراسة في التشكل والتمثل والتفاعل”، من تقديم وتنسيق الباحثين حسين بوبيدي ومحمد بوعبد الله، عن المركز الجزائري للدراسات “مجد” بالاشتراك مع دار الإحسان، وحاول المؤلفون تقديم أجوبة على مختلف التساؤلات المتعلقة بالموضوع، حيث درس في المحور الأول المفاهيم المرتبطة بالهوية، من أجل التمييز بين ما يعد أصلا هوياتيا جامعا، وما لا يمكن إقحامه ضمن القضايا الجامعة المشكلة لهوية الأمة، دون نفي وجود ارتباط له بخصوصية تجعل منه هوية خاصة تمثل إحدى دوائر الانتماء الضيقة، دون أن يكون ناقضا للأصول الجامعة، وفي هذا السياق يبرز في هذا المحور مقال تأسيسي (الأول)؛ للباحث الدكتور محمد وادفل، ويتعلق بالحد المنطقي للهوية، يعد بمثابة الإطار الضابط للمفهوم وتبيانا للعلاقة بين الحد المنطقي والتأسيس النظري الذي يبين الفرق بين مختلف دوائر الانتماء الهوياتية، مفرقا بين الهويات الخاصة والهويات الجامعة التي لا ينبغي للأولى أن تكون بديلا لها، حفظا لوحدة الأمة وديمومة الوطن ومنعا للتشرذم والتفرق، وفي هذا السياق يتم الكشف عن التداخل بين دوائر الانتماء وعن مراكمتها من خلال تحويل التنوع إلى عنصر إثراء ثقافي وليس إلى عامل تفكيك وهدم، وهذا بالحرص على تقديم الهويات الخاصة والدوائر الضيقة باعتبارها موارد لتشكيل الدوائر الكبرى، وليست “ضرائر” لها أو بديلا عنها، ومن خلال الانتقال من المفاهيم المنطقية في الفلسفة اليونانية إلى ما طورته انطلاقا منها الآراء الفلسفية الإسلامية يتبين لنا هذا الحد بشكل جلي، ويسمح لنا بالتمييز بين ماهو هوياتي وماهو خارج عنه.
أما في المقال الثاني الذي جاء من توقيع الدكتور حسين بوبيدي، حول “الهوية الحضارية: منطلقات التشكل وتفاعلات التحول.. دراسة فلسفية تاريخية”، فقد إجتمع الطرح الفلسفي مع الاستدلال التاريخي، وذلك بالتأصيل للمفهوم لتجاوز التأصيلات الضبابية التي تبني آراء على مقدمات هشة، ثم وضع الهوية في إطار مسارات التشكل التاريخي للمطابقة بين التنظير والتطبيق، وفهم الآلية التي تتشكل بها هوية المجتمعات والأمم من خلال تراكمية طويلة و تراتبية عاقلة، ومن ثم يأتي التفريق بين الأمم التي تنتبه لأهمية هذه التراتبية التراكمية والتراتبية العاقلة، فتحقق بها نجاحات التطوير والازدهار وبناء لحمة قوية داخل شعوبها، والإخفاقات التي تلم بها الأمم عندما يتم تجاوز قضية التراتبية الهوياتية والإخلال بها حيث يؤول الوضع إلى تصادم دوائر الانتماء وتنازعها، هي مقدمات الفتن والحروب والانقسامات.
وانطلاقا من استلهام تاريخ الجزائر في النماذج والدراسات، يقدم الباحثان الدكتور نذير برزاق والدكتورة زهوة أعزيبي، متابعة تاريخية لتشكل المنظومة المعرفية للمغرب الأوسط (الجزائر) في العصر الوسيط، وهي المنظومة التي تمثل امتدادا لمختلف التفاعلات التي شهدتها المنطقة منذ التحاقها بدار الإسلام واندراجها في حضارته، فشكلت بذلك الهوية الجامعة التي تعبر عن الانتماء الحضاري على المستويين الفكري والقيمي، انطلاقا من أن المنظومة القيمية علامة خصوصية تعبر بشكل مباشر عن المنظومة المعرفية، فتضبط بها العلاقات الأسرية وتنظم من خلالها الترابطات الاجتماعية، وتمتد إلى مختلف تمظهرات الحياة الثقافية والاقتصادية والسياسية، وهي بذلك تشكل مظلة تشمل كل مناحي الحياة، وقد تم اختيار فترة القرن 7-9هـ/13-15م باعتبارها تمثل الصورة التي انتهت إليها التفاعلات الفكرية والتجاذبات المذهبية في صورتها العامة، لكن تجاوز مجتمع المغرب الأوسط حالة “الحراك المذهبي الناتج عن الصراع السياسي” أمكنه من تحقيق تعايش داخلي وانفتاح على المنظومات التي استمرت في تبني خيارات سابقة، إيمانا منه بقدرته على استيعابها جميعا في إطار وحدة الأرض ووحدة الدين ، ووحدة الخلفية الحضارية التي تظلها العروبة والإسلام.
في المحور الثاني، يعالج الكتاب قضية التمثل والتفاعل الهوياتي، عندما يبحث عن ملامح الانتماء في السيرورة المجتمعية، ولأن أهم فترات الانبعاث الهوياتي هي تلك التي تعبر عن حالة المجابهة ضد عدو خارجي يعمل على تغييب وطمس الهوية الأصيلة سعيا لتشكيل مجتمع جديد بهدف السيطرة عليه، فإن الكتاب يبحث في المقال الرابع، للدكتور فارس بوحجيلة، مكانة الهوية الإسلامية العربية ضمن المشروع السياسي للحركة الوطنية الجزائرية 1924-1954، من خلال دراسة تبين الأسس الهوياتية لجهود الحركة الوطنية الجزائرية من أجل الاستقلال، مبرزا ارتكازها على مقوم الانتماء العربي الإسلامي، باعتباره المقوم القادر على حفظ الخصوصية الوطنية، وتخليص الهوية الجامعة من مشاريع التشويه والتحقير ومخاطر الاستلاب والتدمير، فالوثائق المؤسسة والأدبيات المحفوظة تظهر وعي القيادات الوطنية المناضلة ضد الاحتلال الفرنسي بساحة المعركة الهوياتية، وتأكيدها على البعد الحضاري في مقاومتها ونضالها، واعتماد الانتماء العربي الإسلامي منطلقا ومرتكزا تدافعيا، لأنه ذات الانتماء الذي استهدفت سياسات الإحلال والإبدال الاستعمارية تحييده وتحقيره وتشويهه في نفوس الجزائريين؛ لتتمكن من إعادة تشكيل شخصيتهم و”إنتاج” هوية مصطنعة لهم، وهو ما كان للنجاح الجزئي للاستعمار فيه آثاره على البنية الداخلية للحركة الوطنية، مجسدة في أزماتها وفي التناقضات التي طبعت التصورات التي أريد لها أن تمثل هوية الجزائر المستقلة بين ما كان تاريخيا وما يراد واقعيا.
بينما في المقال الخامس، يطرح الكتاب قضية ” الأمازيغية” طرحا ينطلق من تشريح الخطابات المتعلقة بها، والتي قسمها الدكتور عبد القادر عبد العلي إلى ثلاثة خطابات: إحيائي، وتخويفي تخويني، وإسلامي، وهو إذ يقدم الخطابات الثلاث، فإنه يطرح الخلفيات والسياقات التاريخية المنتجة لها، وذلك لفهم ظروف تشكل المواقف وتبلور المقالات والتداخلات الموجودة بين بعضها، ولأن المقال لا يكتفي بالمحددات الكبرى فهو يتناول الأبعاد التي أنتجب الخطابات حول الأمازيغية من خلالها وجعلها في أربعة أبعاد: البعد التاريخي، البعد الثقافي، البعد اللغوي، البعد الحقوقي، مبرزا طريقة تعاطي الخطابات السابقة معها، لينتهي إلى طرح النموذج الذي يتبناه اعتماد على ما أسماه الرؤية الإسلامية الكونية المنطلقة من احترام تعدد الألسن وتنوع الثقافات، وضرورة إبعاد القضية من التوظيف السياسي لتتم عملية التأطير والنهوض بالأمازيغية ضمن خطاب يستلهم مبادئ الإسلام القائمة على السننية والفطرية، واحترام الاختلاف الطبيعي القائم بين البشر، وبذلك يتم تحييد خطاب العصبية القومية والتعصب القومي، وتعرية خطاب معاداة العربية باسم الأمازيغية كذريعة لطمس تعاليم الدين ومحاربته، ملمحا إلى أن هذا التبني للقضية الأمازيغية وفق هذه الرؤية ينتزعها من التيار الذي يستغلها لصالح اللغة الفرنسية، والذي وجد في المطلب الهوياتي الأمازيغي، تعزيزا لما يسمونه بالوضعية اللغوية التعددية في المجتمع المغاربي، والقائمة على تراتبية وتنضيد لغوي، تحتل فيه الفرنسية قمة الهرم.
من نفس المنطلق ولكن بخلفية تدمج الأمني بالسياسي، يتناول الدكتور يحيى بوزيدي في المقال السادس والأخير “القضية الهوياتية من منظور الأمن والهوية والسلطة.. تفاعلات وتجليات”، ليقرأها في الحالة الجزائرية و أثرها على الاستقرار الاجتماعي، حيث يقدم مداخل واسعة في تشريح الصورة الجزائرية والتصورات المختلفة بل والمتناقضة أحيانا لهوية الأمة، ومدى مركزية الإسلام والعروبة والأمازيغية ضمنها، ليكشف عن خطابات تتعاطى مع هذه العناصر بشكل شديد التباين سواء من حيث ترتيبها، أو إقصاء أحدها، ويؤسس تاريخيا للموضوع من خلال تجلياته في تاريخ الحركة الوطنية ومركزية الخطاب الهوياتي في مشروعها الإصلاحي والاستقلالي الذي ضمن لها شعبيتها في مقابل الخطابات الإدماجية التي عجزت عن إيجاد بيئة حاضنة واسعة، ثم انبلاج “القنبلة الهوياتية” داخل حزب الشعب – حركة الانتصار – فيما عرف بالأزمة البربرية.
وفي مرحلة الثورة يبين المقال أن تجاوز القضية الهوياتية بإعلان الثورة وميلاد جبهة التحرير الوطني كان مؤقتا، لأنه سرعان ما ظهر حضور الخلفية العروبية –الفرنكفونية- الأمازيغية في صراعات المواقع، وخاصة بعد تدخل دول خارجية في سياق صراعات الزعامة ومحاولات التوظيف، واستمر النزاع في مرحلة الحزب الواحد وانتقل تدريجيا من صراع بين نخب السلطة، أو بين السلطة ورجالات الإصلاح الوارثين لمقولات جمعية العلماء والمعارضين للتوجه الاشتراكي للدولة، إلى صراع مجتمعي بعد أن انخرطت التيارات المتصارعة في الجامعة وغيرها في المنافسة على تشكيل هوية الجزائر خاصة بظهور المد الإسلامي وبروز التوجه الأمازيغي.
وفي مرحلة التعددية السياسية يكشف كاتب المقال عن التطورات التي شهدها الصراع الهوياتي وخاصة بين خط التعريب وخط المطالب الأمازيغية اللغوية والثقافية، وكيفية تأثير المشهد الأمني العنيف الذي أعقب الانقلاب وتوقيف المسار الانتخابي على مختلف الحساسيات الهوياتية، ليتبين الحضور الكثيف للبعد الهوياتي في سياق التاريخ الجزائري المعاصر والحاجة الملحة لتفكيك كل القنابل المرتبطة به صونا للحاضر وحماية للمستقبل.
ويبقى هذا التقديم الموجز مجرد عرض خبري مركز، انطلاقا من مقدمة العمل الجماعي نفسه، لا يغني عن قراءة الإنتاج المعرفي العميق الذي يبقى جديرا بالمطالعة والمتابعة من المهتمين وعموم القرّاء.
قد يهمك أيضا: