بيروت - أ.ف.ب
ازمة المنشطات وتبعاتها المستفحلة هذه الايام في عالم العاب القوى، وما اوقعته من عقوبات قضت اخيرا بتوقيف الاتحاد الروسي للعبة دوليا، حتى تسوية اوضاعه "الفنية – القانونية"، وصولا الى امكان تجميد نشاط الاتحاد الدولي للعبة، اعادت تسليط الضوء على "داء مستفحل" في جسم الرياضة العالمية. فالحقيقة ان العاب كثيرة "ملوثة"، لكنها تستمد حمايتها من سلطة المال ومصالح الدول العليا وصون "الصورة الناصعة" والسمعة.
والموجة المتصاعدة اخيرا طرحت مجددا الصراع في هذا الاطار، حيث الغاية تبرر الوسيلة مهما كان الثمن، لان الفوز بميدالية قرار استراتيجي احيانا معطوف على الاستثمار ومبالغ الرعاية وسياسة اظهار القوة والكفاءة والنهج السليم، فلا عجب ان تحدثوا عن مختبر روسي "مضاد" لكشف المنشطات يحمي المتنشطين ويقيهم اكتشاف حقيقتهم.
وكانت الوكالة العالمية دانت في تقرير نشرته مطلع تشرين الثاني/نوفمبر نظاما شاملا للمنشطات في روسيا، متهمة رئيس المختبر الروسي غريغوري رودتشنكوف --الذي استقال من منصبه-- بالضلوع في تنشيط الرياضيين، ويتضمن خصوصا اتلاف المختبر نتائج اختبارات ايجابية لمواد منشطة و1417 عينة محفوظة. وطالبت الوكالة في الوقت عينه بايقاف العاب القوى الروسية عن المشاركة في المسابقات كلها.
واشار غونتر يونغر مدير المنشطات السابق في الانتربول ان التورط الروسي ثبت في ضوء بحث وتقصٍ ورصد وتحليل وثائق وتسجيلات، الى رسائل "ارشادية" وجهها الطبيب سيرغي برتغالوف الى رياضيين حول سبل التنشط وكيفية تفادي الوقوع في الاختبارات.
غير ان الامر لن يقتصر على لائحة روسية، فدلائل كينية تصب في الاطار عينه، كذلك تركية وصينية وبلغارية، فآثار "المدرسة الشرقية" لم تمح بعد.
فمثلا، ظهرت آثار تنشط على 18 عداء كينيا من بين 800 حالة ايجابية لـ5 آلاف عينة اخذت من رياضيين بين العامين 2001 و2012. ويؤكد العداء ويلسون كيبسانغ بطل ماراثوني لندن ونيويورك، ان "المنشطات في كل مكان وليس في كينيا وحدها"، فحصد الجوائز المالية وايقاع الفوز يتطلب ان تتنشط لتبقى في المقدمة.
وتتهم العاب القوى الكينية بان 30 الى 40 في المئة من وجوه صفها الاول يتنشطون. وما يثير استغراب بعضهم انه منذ عام 2007 تحطم الرقم العالمي للماراثون مرة كل سنتين تقريبا، علما ان اسلوب التدريب وظروفه في المعسكرات الكينية لم تتبدل منذ عام 1980.
وسيغيب رباعو بلغاريا عن دورة ريو دي جانيرو الاولمبية في الصيف المقبل، بعدما أوقفهم الاتحاد الدولي لرفع الأثقال عقب إكتشاف حالات تنشط عدة في صفوفهم. واتخذ القرار على هامش بطولة العالم للمصارعة التي اجريت في هيوستن الاميركية اخيرا.
ففي آذار (مارس) الماضي، سقط ثمانية رباعين بينهم ثلاثة من أبطال اوروبا وثلاث رباعات في اختبارات للمنشطات (تناولوا مادة ستانوزولول) أثناء معسكر تدريبي استعدادا للبطولة القارية في تبيليسي بجورجيا. كما أوقف ديمير ديميريف، بطل اوروبا السابق وايفان ماركوف بطل العام الماضي، وايفايلو فيليف والرباعة ميلكا مانيفا بسبب اتهامات مماثلة.
وكان الاتحاد البلغاري للعبة عانى من مواقف متكررة مماثلة مثيرة للحرج، وجرّد من رخصته موقتا في عام 2009. وغاب الرباعون البلغار عقب الانسحاب من دورة بكين الاولمبية 2008 اثر سقوط 11 منهم في اختبارات المنشطات.
كما سحب الاتحاد الدولي احدى بطاقات رومانيا في الاولمبياد بسبب سقوط عدد من رباعيها في اختبارات المنشطات أثناء التصفيات. وحكمت محكمة التحكيم الرياضي على الاسبانية مرتا دومينغيز، بطلة العالم 2009 في سباق 3 الاف موانع، بالايقاف 3 سنوات بسبب مخالفتها قوانين مكافحة المنشطات وستخسر بالتالي ذهبيتها، علما ان اتحاد بلدها برأها في شباط (فبراير) 2014 خلافا لتوصيات الاتحاد الدولي، الذي طلب ايقافها 4 سنوات. فطلب الاخير والوكالة العالمية لمكافحة المنشطات تدخل محكمة التحكيم الرياضي للبت في هذه القضية. وهكذا يبدو ان الامر لا يقتصر على "مخالفات" روسية للفوز بميداليات دولية، فبين عامي 1988 و2000 حصد 24 رياضيا اميركيا بينهم الاسطورة كارل لويس ميداليات اولمبية، وسبق ان اكتشف انهم تنشطوا، لكن المصلحة العليا قضت بالتستر والكتمان، الى غض النظر والحماية واتخاذ ترتيبات "مضادة" هندسها الدكتور وايد اكسوم. وبعد اعوام ضج العالم بفضائح مختبر بالكو ومالكه فيكتور كونتي، الذي استعان بخدماته "العداءان الاولمبيان" ماريون جونز وتيم مونتيغومري.
اما بنك العينات الذي طالما فاخر الاتحاد الدولي لالعاب القوى انه يمتلكه بموجب اطلاقه الجواز البيولوجي، فقد تحول من بنك معلومات ثمين الى دراما قد تقضي على كيانه، وبات رئيسه الجديد اللورد سيباستيان كو "تحت المجهر" تُرصد تحركاته والاجراءات التي سيتخذها اتحاده.
في عام 2010، كشف باحثون في مختبر لوزان ان 14 في المئة من 2737 خضعوا لفحوص المنشطات، اظهروا آثارا ايجابية. وفي بلد لم يسموه يتنشط رياضي من اثنين. وبعد خمسة اعوام، اظهرت اختبارات لوزان ان 16 في المئة من اصل 5 آلاف رياضي خضعوا للفحص متنشطين بطريقة او اخرى. اما لائحة الـ150 رياضيا التي اشار اليها تحقيق التلفزيون الالماني اواخر العام المنصرم، والتي حركت المياه الراكدة ووكر الدبابير في عالم العاب القوى، فستحلل عيناتهم الثانية المحفوظة وتعلن نتائجها قبل انقضاء عام 2015.
لقد خطفت العاب القوى الاضواء بآفة المنشطات، غير ان اتحادات اخرى تداري وجهها حماية للسمعة وحفاظا على الهالة والشهرة، فهي اشبه بقصر منيف واجهاته براقة والمياه الآسنة تجري في اروقته.
والحالة الراهنة تشبه الطريقة التي اعتمدها الاتحاد الدولي للدراجات في تستره على الاميركي لانس ارمسترونغ، بطل دورة فرنسا 7 مرات (1999 – 2005) بفضل برنامج تنشط ممنهج. فقد غض الاتحاد الدولي الطرف مرات (عن عينات ايجابية لمادة كورتيكوييد)، وفضل ايضا الا يشوه هالة بطولة العالم التي احرز الفرنسي لوران بروشار لقبها (تناول مادة ليدوكايين).
والشكوك تطاول كرة المضرب ايضا، فقد افاد بيدرو مونوز رئيس الاتحاد الاسباني السابق (2005-2009) ان هناك حالات كثيرة بين اللاعبين المحترفين مسكوت عنها او اخضعت لغرامات رمزية. وكشف انه تدخل شخصيا لـ"حماية" احد مواطنيه في نهاية عقد التسعينات.
والواضح ان اداريين ومدربين لا يستطيعون الخروج من "منظومة المنشطات" لانها "الاداة الفاعلة في عالم الرياضة". من هنا كان الطرح بتكليف الوكالة العالمية بمفردها بمهام المراقبة والفحص وفرض العقوبات، لكن مثل هذه الخطوة تتطلب موازنة تفوق المليار يورو سنويا، في مقابل 30 مليونا تسير بها اعمالها حاليا. وقد نوقشت الفكرة في اجتماعات المكتب التنفيذي للوكالة الذي عقد يومي 17 و18 تشرين الثاني/نوفمبر في كولورادو سبرينغ بالولايات المتحدة.
وفي حال ارادت اللجنة الاولمبية الدولية والوكالة العالمية اجراء مسح سريع لمعرفة موقف الاتحادات الدولية من هذا التوجه، لاتضح ان هناك ثلاثة اطراف من المعنيين: اتحادات مرحبة لانها تتخلص من عبء اداري وتقني ومالي، واخرى لا تأبه بالموضوع، والاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" الذي سأل من سيمول الوكالة العالمية للاضطلاع بمسؤولياتها المقترحة.
لكن تبقى معضلة القاء المسؤولية وآليات التنفيذ، وهل مصدر الفساد والرشى اشخاص ام اساليب وانظمة؟
وكان الفرنسي آرسين فينغر، مدرب آرسنال الانكليزي، دعا الى خضوع اللاعبين لفحوص دم دورية لتحسين اجراءات مكافحة المنشطات، التي يعتبرها "سطحية" (فحوصات البول) في الوقت الحالي، ويجد في القواعد القائمة "ربما غير كافية. ومن غير المعقول غض النظر عن هذه المشكلة في كرة القدم"، مطالبا بالغاء عقود اي لاعب يثبت تنشطه.
واوضح فينغر: "قلبت فضيحة المنشطات الامور في العاب القوى، وهناك مشكلة ايضا في الدراجات، والاعتقاد بان كرة القدم بعيدة من ذلك امر غير صحيح تماما". ولفت الى انه ليس منطقيا ان يكون لديك 740 لاعبا في بطولة مثل كأس العالم، ولا يكون هناك شخص واحد منهم يتعاطى المنشطات.