القاهرة - الجزائر اليوم
عندما انفجر بركان بيناتوبو في الفلبين في يونيو/حزيران من عام 1991، أطلق ملايين الأطنان من الرماد الأبيض وجزيئات الكبريتات في طبقات الجو العليا، وتحديدا الستراتوسفير، على ارتفاع 10 كيلومترات من سطح الأرض. وقد أدى انتشارها إلى تشكيل غيمة ضخمة غطت أجزاء كبيرة من الكرة الأرضية.
واكتشف العلماء أن هذه الغيمة عكست كميات كبيرة من أشعة الشمس نحو الفضاء، وساهمت في خفض متوسط درجات الحرارة العالمية في ذلك العام بمقدار 0.6 درجة مئوية. وقد قاد ذلك بعض الباحثين إلى التفكير في إمكانية محاكاة تأثيرات البراكين بإنتاج غيوم اصطناعية للحد من الاحتباس الحراري.
ومن المعلوم أن التصدي لتغير المناخ يتطلب أولا تخفيض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، والاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة بدلا من الوقود الأحفوري. وحثت اللجنة الحكومية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة دول العالم على التحرك العاجل لتخفيض الانبعاثات بمقدار النصف عن المستويات الحالية في غضون 12 عاما والقضاء تماما على الانبعاثات بحلول عام 2050.
وفي الوقت الراهن، تعكس الأسطح البيضاء، مثل الجليد القطبي، نحو 30 في المئة من أشعة الشمس التي تصل إلى الأرض نحو الفضاء. ويعكس الجليد البحري مسار نحو 90 في المئة من أشعة الشمس الساقطة عليه إلى أعلى، في حين تمتص المحيطات المظلمة المفتوحة 94 في المئة من أشعة الشمس ولا تعكس سوى 6 في المئة منها.
لكن الجليد البحري في القطب الشمالي آخذ في الانحسار، ولهذا من المتوقع أن تتسارع وتيرة الاحتباس الحراري، ما لم نجد سطحا أبيض بديلا عن الجليد.
واقترح كثير من الباحثين أفكارا جديدة لعكس أشعة الشمس، منها إطلاق مرايا في الفضاء لتدور حول الأرض أو تركيب آلات لتوليد الثلج تدار بطاقة الرياح فوق المحيط المتجمد الشمالي، أو تغطيته بتريليونات من حبات الرمال العاكسة. وطرحت خطة من بيرو لطلاء قمم الجبال باللون الأبيض لتقوم مقام الأنهار الجليدية.
وتعكس الغيوم أيضا أشعة الشمس بطريقة طبيعية، إذ تعكس السحب الركامية التي تغطي 20 في المئة من مساحة الأرض نحو 30 في المئة من إجمالي أشعة الشمس الساقطة عليها، كما تسهم في تبريد أسطح المحيطات تحتها. وتُدرس الآن مشروعات لتبييض السحاب في ما يُطلق عليه “زيادة وضاءة السحب بمياه البحر”، أي زيادة قدرتها على عكس أشعة الشمس.
ويعد ستيفن سالتر، الأستاذ الفخري بجامعة إدنبرة، واحدا من أشد المؤيدين لهذه المشروعات. إذ درس سالتر الكثير من الأبحاث عن تأثير السفن على السحاب. فقد كشفت صور التقطتها الأقمار الصناعية أن السفن تترك آثارا في الجو فوق المحيطات، تشبه الدخان الذي نراه في السماء خلف الطائرات. وأوضحت الأبحاث أن هذا الدخان يسهم في تبييض السحب.
إذ تؤدي جسيمات هذا الدخان إلى تكوين “نوى التكاثف” التي يتراكم حولها بخار الماء. ولأن هذه الجسيمات أصغر حجما من الجسيمات الطبيعية، فإن قطرات المياه التي تتولد عنها أصغر حجما من قطرات المياه الطبيعية في السحب. وكلما كان حجم قطرات الماء أصغر، زادت وضاءة السحب، وبالتالي زادت قدرتها على عكس أشعة الشمس الساقطة عليها.
وفي عام 1990، اقترح عالم الغلاف الجوي البريطاني جون لاثان استخدام جسيمات طبيعية لا ضرر منها، مثل ملح البحر، لإحداث هذا الأثر. واستعان بستيفن سالتر لتصميم نظام رش جزيئات ملح البحر على السحب.
وصمم سالتر سفينة ترتفع عن سطح الماء بتقنية “الهايدروفويل”، ويمكن التحكم بها عبر الكمبيوتر، وتدار بطاقة الرياح. وتضخ هذه السفن ملح البحر على هيئة رذاذ بالغ الدقة نحو طبقة السحب. وتتراوح تكلفة تشغيل هذه السفن ما بين 100 و200 مليون دولار سنويا، أي أقل من تكلفة استضافة مؤتمرات الأمم المتحدة للمناخ.
ويقول سالتر إن أسطولا من 300 سفينة ذاتية القيادة قد يخفض متوسط درجات الحرارة العالمية بواقع 1.5 درجة مئوية. ويرى سالتر أن هذه السفن قد تستخدم أيضا لتخفيف حدة الكوارث الطبيعية. فإن تبريد الطقس في أماكن بعينها، عبر تقنيات تبييض السحب، قد يساهم في تخفيف شدة الأعاصير المدارية وظاهرة النينو، وكلاهما يتفاقم بفعل ارتفاع درجات حرارة البحار.
ويقول سالتر إن هذه السفن قد تستخدم أيضا لحماية الشعاب المرجانية وتبريد المناطق القطبية تمهيدا لعودة الغطاء الجليدي.
ناقوس الخطر
لكن المشكلة أن الآثار الجانبية لتقنيات الهندسة الجيولوجية أو ما يسمى “هندسة المناخ” التي تستهدف زيادة مقدار الإشعاع الشمسي المنعكس إلى الفضاء، ليست واضحة بعد. إذ يرى البعض أن هندسة المناخ قد تؤدي إلى زيادة موجات الجفاف والفيضانات ونقص المحاصيل الزراعية، بل حذر البعض من استخدامها كسلاح في الحروب، إذ أطلقت القوات الأمريكية آلاف الطائرات لاستمطار السحب إبان حرب فيتنام لإغراق خطوط إمدادات العدو.
ويخشى البعض أن تتخذ هندسة المناخ ذريعة لعرقلة جهود تقليل الانبعاثات، وبهذا يتواصل ارتفاع معدلات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي وتزيد حموضة المحيطات.
وصمم فريق “إم سي بي بروجيكت”، بقيادة كيلي وانسر، أجهزة تشبه آلات تصنيع الثلج في منتجعات التزلج، لكنها قادرة على رش جزيئات أصغر عشرة آلاف مرة من بلورات الثلج نحو السحب، وتطلق ثلاثة تريليونات جزيء كل ثانية.
وتقول وانسر “هذه التقنيات تمكنك من التحكم في درجة وضاءة السحب بدقة لتفادي التأثير على الطقس أو المناخ”. إلا أن هذه الأبحاث، بحسب وانسر، لن تكتمل قبل عشر سنوات على الأقل. وبسبب الضجة التي أثيرت حول أبحاث الشركة في مجال هندسة المناخ، لم يتمكن فريقها من تبييض سحابة واحدة حتى الآن.
لكن الخطورة الحقيقية تكمن في الاضطرار للجوء لهذه التقنيات كحل أخير لمشكلة تغير المناخ دون إجراء أبحاث كافية لفهم طبيعة آثارها الجانبية. وتقول وانسر “كلما ارتفعت درجات الحرارة بفعل الاحتباس الحراري، زادت كميات الجزيئات التي ستسخدم لتخفيضها، وهذا سيزيد من احتمالات حدوث آثار جانبية أكثر خطورة”.
براكين اصطناعية
اقترح البعض حلا آخر لتقليل كميات أشعة الشمس التي تصل إلى الأرض، يتمثل في تقنية نشر الهباء الجوي في طبقات الجو العليا، لمحاكاة تأثير البراكين، لكن الفارق أن جسيمات الهباء الجوي ستنشر في طبقة الستراتوسفير، لتشكل ستارا معلقا يكاد يكون ثابتا ورقيقا إلى حد أنه يتعذر رؤيته من الأرض. ومن المفترض أن تعكس هذه الطبقة جزءا من أشعة الشمس نحو الفضاء.
وتشير نتائج الأبحاث التي أجراها المركز الوطني الأمريكي للأبحاث الجوية بالمحاكاة الحاسوبية، إلى أن كل تريليون غرام من جزيئات الهباء الجوي، سيسهم في تخفيض درجة حرارة الجو بمقدار 0.2 درجة مئوية.
لكن تبعات هذه التقنية أيضا على الطقس أو طبقة الأوزون لا تزال غير واضحة. فضلا عن أن هذه الطبقة الاصطناعية قد تظل ثابتة في مكانها لما يصل لعامين.
ويقود جهود نشر الهباء الجوي برنامج إدارة الإشعاع الشمسي بجامعة هارفادر. وتقول إليزابيث بيرنز، مديرة البرنامج، إن هذه الأبحاث مكملة لجهود الحد من الانبعاثات وليست بديلة عنها. فلن نتمكن من التصدي لتغير المناخ دون القضاء على الانبعاثات.
وبسبب المعارضة الشرسة التي لاقتها أبحاث البرنامج، لم يتمكن فريق الباحثين في هارفارد من حقن غرام واحد من جزيئات الهباء الجوي في طبقة الستراتوسفير. ولم يختلف الأمر مع مشروع هارفارد “سكوبيكس” لإطلاق كيلوغرام من كربونات الكالسيوم في الجو بواسطة منطاد ضخم، لقياس التفاعلات الكيميائية.
ويرى المعارضون لهذه الأبحاث، ومنهم نائب الرئيس الأمريكي السابق آل جور، أن كبار المستثمرين في مجال الوقود الأحفوري سيستفيدون من هذه التقنيات لإعاقة جهود تقليص انبعاثات الكربون.
وقد وقّع ما يزيد على 100 جمعية ومجتمع مدني على بيان رسمي يطالب بمنع جميع تجارب هندسة المناخ لما تمثله من مخاطر على التنوع الحيوي والبيئة وسبل كسب الرزق.
وتقول بيرنز إن تقنيات هندسة المناخ لن تجدي في احتواء ظاهرة الاحتباس الحراري إن لم نتمكن أولا من تخفيض انبعاثات الغازات المسببة لها. فإذا زادت مستويات الغازات الدفيئة في الجو ستوظف هندسة المناخ سنويا للحد من آثارها، وبذلك فإننا في الواقع نجهد النظام الأرضي بطرق لا نعرف تبعاتها بعد.
ويرى البعض أن هذه الأبحاث تدعمها كبرى شركات الوقود الأحفوري وأصحاب المليارات. إذ ذكرت جماعة مراقبة هندسة المناخ المعارضة للأبحاث أن بيل غيتس أنفق الملايين على أبحاث بجامعة هارفارد في مجال هندسة المناخ، تدعمها شركات “إيكسون موبيل” و”شيل”، رغم أن بيرنز قد نفت تلقي أموال من شركات الوقود الأحفوري.
وثمة طرق عديدة لمواجهة تغير المناخ قد تغنينا عن اللجوء لهندسة المناخ، مثل زراعة الأشجار، وهي طريقة فعالة للحد من مستويات الكربون في الغلاف الجوي، وإحلال مصادر الطاقة المتجددة محل الوقود الأحفوري، للقضاء على الانبعاثات من جذورها. لكن الحكومات لم تتخذ الخطوات اللازمة للحد من الانبعاثات بالسرعة الكافية.
وتقول بيرنز إن “خيار اللجوء للهندسة الجيولوجية مخيف، وأتمنى ألا نضطر لذلك”. لكن الباحثين يريدون أن يكون رفض استخدام الهندسة الجيولوجية مبنيا على أدلة علمية مثبتة.
وتضيف بيرنز “الأنشطة البشرية تؤثر بالفعل على الغلاف الجوي بشكل غير مسبوق، ونحن نطرح حلولا قد تساعد في تخفيف الآثار المترتبة على زيادة مستويات انبعاثات الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي، لكنها ليست علاجة. هذه القضية تستدعي اهتماما عالميا لتناولها من جميع جوانبها”.
قد يهمك ايضا:
الطحالب البحرية تتسبب في اضطراب الذاكرة لدى أسود البحر
سحب 40 طنًّا مِن شباك الصيد المهجورة من "دوامة نفايات المحيط الهادئ"