دمشق ـ وكالات
يشكل كتاب 'الحروفيّة العربيّة.. الهواجس والاشكالات' لمؤلفه د. محمود شاهين إضافة للمكتبة العربية في ثقافتنا التشكيلية، التي بدأت تأخذ حيزاً من الاهتمام مؤخرا، ينقلنا إلى عوالم صناعة اللوحة وتلقيها والاتجاهات الفنية بالمعنى التاريخي والمعاصر. وأهمية الحروفية أنها التعبير الأهم في موروثنا التشكيلي منذ الحقبة الاسلامية الأولى وامتدادها لبدايات القرن العشرين، وإن وجدت مساهمات حروفية في اللغات والثقافات الأخرى، فإن الحروفية تكاد تكون المكون التشكيلي الرئيس في تراثنا وحضارتنا العربية والإسلامية، مع وجود تجارب قليلة خرجت على هذا النسق الثقافي كالواسطي في إيران، وسواه من التجارب التي اهتمت بالتشخيص، أو التجريد الزخرفي الذي اندرجت الحروفية في إطاره لاحقا. ويجب الاعتراف بأن الخط العربي دخل عالم التشكيل من باب الاهتمام بالنص القرآني والديني أولاً، ومن باب الاهتمام الزخرفي والجمالي تالياً، فكانت اللوحات نوعاً من الرقش التزييني على جدران المساجد وفي القصور والأماكن العامة وعلى شواهد القبور، قبل أن تتحول إلى لوحة ورقية أو قماشية يمكن تعليقها ضمن إطار أو خارج الأطر، لذلك كانت الفترة الذهبية لتطور صناعة الحرف أو الرقش، كما كانت تسمى سابقاً، مرتبطة بازدهار أي من العصور أو الدويلات الاسلامية بشكل عام، من خلال اهتمامها بالتطور العمراني وبناء المساجد وقصور الولاة والسلاطين، من دون أن ننسى الوظيفة التزيينية للخط العربي في المؤلفات الدينية والأدبية القديمة، حيث كانت المخطوطات تكتب بخط اليد، وهي حرفة قائمة بذاتها، كما حفلت أغلب تلك الكتب والمخطوطات بمتن للنص، وهامش للشروحات والتزيين. ويمكن اعتبار كتاب الدكتور شاهين نموذجا توثيقيا لهذا الاتجاه الفني، عبر استعراض تاريخي للحروفية العربية بداية، من أصل الحرف العربي وعلاقته بالخط الآرامي، وتجليه النبطي لاحقاً، وصولاً إلى صيغته الحجازية التي سيطرت لقرنين من الزمن، حيث دعي في هذه الفترة من قبل العرب بـ'الخط الحيري' أو 'الأنباري' نسبة لمناطق وجودهم في الحيرة أو الأنبار من أرض العراق. لينتقل مع بناء الكوفة في القرن الثامن للهجرة، إلى شكله الأجمل الكوفي، الذي شكل مزاوجة بين الخط والزخرفة الهندسية، التي أخذت أشكالاً لا تحصى من التكوينات الجمالية، من دون أن يتوقف المؤلف مع أسباب تجاهل هذا الخط وبقية الخطوط العربية في الدولة العثمانية لصالح الخط الديواني فقط. ثم يستعرض المؤلف أشهر الخطاطين العرب والمسلمين الأوائل، أمثال: الوزير ابن مقلة وابن البواب والحافظ عثمان وإبراهيم منيف وعبد الله الزهدي، مع تركيز على تطور الخط العربي وتزايد الاهتمام به وبتعلمه، حيث افتتحت المعاهد والجامعات ومراكز البحث المتخصصة بدراسة الخط العربي في أصوله وأنواعه أو طرزه، إضافة للمعارض الدورية التي تشي بأهمية هذا الخط وأهمية تطويره بالمعنى الجمالي كتشكيل دلالي أولاً، أي تشكيل يهتم بتوصيل العبارة الدينية أو الآية القرآنية أو بيت الشعر العربي أو المثل الشائع، لكن سرعان ما طغت عليه الغاية الجمالية كفن، على الغاية الدلالية أو التوصيلية للعبارة، وهو ما ميّز الحروفية كنوع من الفنون التشكيلية أكثر منه حرفة لنقش شواهد القبور، وتحولت اللوحة الخطية أو الحروفية إلى لوحة يمكن تعليقها في الصالونات والبيوت والأماكن العامة، وأضيفت إليه المحسنات اللونية وعناصر جمالية أخرى ارتقت فيه كفن متميز بين الفنون البصرية المعاصرة، وظهر اتجاهان أحدهما يحتفظ للخط بمساحة اللوحة كاملة حتى لو أضيفت لها عناصر أخرى، واتجاه آخر يبني اللوحة بشكل مستقل ويكون الخط أو التوزيعات الحروفية عناصر تزيينية في فضائها. هذه الاشكالية توقف عندها الدكتور محمود شاهين في كتابه الحروفية العربية تحت عنوان التراث والمعاصرة، من خلال تقصي تجارب وآراء العديد من الحروفيين العرب، الذين تراوحت آراؤهم بين التقليد الرصين والمحافظة على الجمالية الخاصة للحرف العربي المتمثلة بالانتظام والتوازن والبساطة والزخرفية في اللوحة، وبين التأثيرات الحداثية التي تقوم على التجريد والتلوين واللعب الحر بإمكانات الخط كتشكيل بصري منفتح على إضافات تزيينية تستبطن إمكانيات الحرف العربي على التشكل والتوظيف ضمن عناصر اللوحة المتعددة. كما أشار المؤلف إلى إشكالية أخرى طرأت على الحروفية العربية مع دخول التقنيات الرقمية وبرامج الكمبيوتر لهذا الفضاء، حيث اعتبر بعض الحروفيين العرب أن معالجة الحرف في الحاسوب يمكن أن تغني اللوحة الخطية بمؤثرات بصرية متعددة، بينما أغلبهم رأى أن هذه الوسائط التقنية تلغي دور الخطاط الفرد كفنان، وتلغي تميزه في عالم الحروفية عن زملائه الخطاطين، لأن برامج التصميم تتجه نحو التعميم، وتصبح متاحة لكل الناس، وتصبح قوالب جامدة تفتقد الروح الفنية واللمسة الإنسانية للفنان. بعيداً عن هذه الاشكاليات، استعرض الكاتب، فيما تبقى من كتابه، بعض التجارب الحروفية والخطية لفنانين سوريين وعرب ومسلمين من إيران أو تركيا بشكل خاص، مقارناً بين هذه التجارب وأنواع الخطوط المفضلة لدى كل منهم، والاتجاهات الفنية والأساليب التقنية لكل فنان، حيث قدم نبذة عنهم وعن تطور دراستهم وتجاربهم الفنية، مشيرا إلى التقاطعات بين بعضهم، وإلى عناصر التميز عند كل فنان منهم. ومن أهم الفنانين السوريين الذين أفرد حيزاً لتجاربهم الفنان الراحل محمود حماد محمود، سعيد نصري، سامي برهان، خالد الساعي، منير الشعراني ومحمد غنوم، فيما توقف مع التجارب العربية لكل من الفنان العراقي ضياء العزاوي ووجيه نحلة من لبنان، ومن إيران استعرض المؤلف تجارب الفنانين: أمير أحمد فلسفي وعباس أخوين ومحمد جليل رسولي وإسرافيل شيرجي وكرم علي شيرازي، وغلام حسين أمير خاني، ومن تركيا نقرأ عن الفنانين محمد أوزاجي وصوص جويك وغيرهم ممن تركوا بصمة مميزة في الخط العربي. أما الجزء الأخير من الكتاب الذي يتسع لنصف حجمه تقريباً، فقد جاء على شكل ملحق لعرض نماذج من اللوحات الخطية التي تعرض لها المؤلف، صور الفنانين ولوحاتهم التي تضعنا أمام قراءة بصرية لتلك الأعمال بتنوعها واختلاف مدارسها وأساليب تنفيذها، التي تشي عموماً بغنى هذا الاتجاه التشكيلي، وآفاق تطوره كفن يغني الحركة التشكيلية العربية عموماً، مع أن المؤلف أهمل الكثير من التجارب الرائدة في هذا المجال، وبشكل خاص تجارب خطاطي المغرب العربي عموماً. الكتاب من منشورات وزارة الثقافة/ الهيئة العامة للكتاب/ 2012/ تأليف: د. محمود شاهين.