بعد مهرجان فينيسيا في دورته الثانية والسبعين التي تكللت بالنجاح، يبدو مهرجانا تورونتو الكندي الذي تنتهي اليوم دورته لهذه السنة وسان سابستيان الإسباني (الذي أطلق دورته الثامنة والستين قبل يومين وينتهي في السادس والعشرين من الشهر الحالي) كما لو أنهما الضلعان الآخران في مثلث المهرجانات الكبيرة التي تسعى لمناوأة وباء «كورونا». مع المهرجان الإيطالي، تشكّل ثالوثاً يريد أن يتحدّى الوباء ويتجاوز الخطر ويُعيد صانعي الأفلام إلى شاشات المهرجان والمشاهدين إلى الصالات. حتى وإن لم يكن في المقدور الاشتغال على الحجم ذاته من الإقبال؛ فعلى الأقل، وكما يقول جوزيه لويس ربوردينوس، مدير عام مهرجان سان سابستيان: «نأمل أن يكون المهرجان مناسبة للحديث عن السينما والأفلام. هذا ما نريد وإذا ما حققناه حققنا النجاح الصعب الذي نريده».
- تراجع تكتيكي
الوباء مفتاح يمكن أن يدور في ثقب الباب يمينا ويساراً. هو حالة موجودة بالطبع لكن كذلك السعي لتحجيمه. مع تجرؤ صالات السينما التجارية حول العالم على العودة إلى العمل بما يتوفر من أفلام جديدة (فرنسا تقود بعدد الأفلام التي حشدتها وعرضتها منذ يونيو/ حزيران الماضي)، أتى دور المهرجانات لكي تعاود الدوران، ومنح المهرجان الإيطالي الثقة لمهرجانات أخرى بالتخلّي عن التفكير في عروض إنترنتية، واعتماد العروض المباشرة في صالات السينما أو، على الأقل، تجربة الحلّين معاً.بلغت الجرأة حدّاً دفع بمهرجان تورونتو (الذي انطلق في العاشر من الشهر وتنتهي أعماله هذا اليوم، الأحد) للإعلان مبكراً أن كل أفلامه ستُعرض على شاشات السينما، قبل أن يتراجع قليلاً ويتيح العديد منها للعروض الافتراضية.
كذلك عمد المهرجان الكندي إلى التأكيد على أن استخدام الكمّامات لن يكون شرطاً للحضور، لكنه تراجع مرّة ثانية، واشترط على الحضور ارتداء الكمّامات. رغم ذلك، حشد المهرجان 50 فيلماً روائياً وتسجيلياً طويلاً في أقنيته المختلفة ما جعل بإمكاننا ملاحظة أن هذه الشجاعة انطوت على تحجيم ضخم حيال عدد الأفلام المعروضة. قبل سنة واحدة بلغ عدد أفلام مهرجان تورونتو 333 فيلماً.لكن الجميع متفهم للضرورة التي حدت بكمّ الأفلام إلى التراجع. ليس الكمّ وحده بل ما يحيط به. من أم الدورات السابقة يعرف كيف أن مهرجان تورونتو تصرّف كما لو أنه ليلة كبيرة واحدة منقسمة إلى عشرة أيام كلها عروض مزدحمة وبرامج مختلفة وجيش من السينمائيين الذين ينطلقون للعمل على نطاق واسع.تورونتو، كونه البوّابة الرئيسية الأولى لسوق أميركا الشمالية، كان يزخر بالحفلات الساهرة وبالنجوم الذين ينتقلون من مقابلة إلى أخرى نهاراً ومن عرض ليليّ إلى آخر ليلاً. المنتجون يجدونه فرصة كبيرة للبيع والشراء، والجميع كان يتغنى بالأهمية الكبيرة التي أنجزها المهرجان خلال عقوده.
- أفلام أولى
من الواضح أن هذا التحدي للوباء أنجز بعض مراميه، المحصورة في إقامته، رغم العراقيل. لكن الثمن كان مرتفعاً حين التوقف عند المقارنة بين دورة هذا العام ودورات الأعوام السابقة. لكن المسألة بأسرها تتمحور حول رفض المهرجان الاعتراف بالوضع القائم، ولو إلى درجة محدودة. الأفلام الخمسون لم تكن مجرد سفينة إنقاذ تم جمع أعمالها كيفما تيسر، بل أفلام منتقاة بعناية، والعديد منها لم يسبق عرضه في أي مهرجان من قبل، كحال الفيلم البريطاني «ليمبو» لبن شاروك، والفيلم البرازيلي «منزل الذكريات» لجاو باولو ميراندا ماريا، والفيلم الأميركي «76 منزلاً» للصيني هاو وو. ومع أنه لم يحفل بكثير من الأفلام العربية، إلا أن المصرية مي زايد عرضت في هذه الدورة فيلمها (الأول) «عش يا كابتن» (تمت تسميته بالإنجليزية Lift Like a Girl)، وهو إنتاج مشترك مع الدنمارك وألمانيا.
أفلام كندية عدة أسهمت في عروض الدورة، من بينها «انتهاك» لمادلين سيمز - فيووَر ودستي مانشينيللي، و«الهندي غير المناسب» لميكيلا لاتيمر، والفيلم الأول للممثل فيغو مورتنسن، كمخرج، وعنوانه «سقوط» الذي انتقل بعد عروضه الكندية ليشارك في عروض مهرجان سان سابستيان أيضاً. إلى هذا العدد استعار، كما هي عادته كل عام، أفلاماً تم عرضها في فنيسيا، من بينها «غزة مونامور» لعرب وطرزان ناصر، و«كوفديس عايدة» للبوسنية ياسميلا زبانيتش، و«نوتورنو» للإيطالي جيانفرانكو روزي (عرضناها في رسائل فنيسيا سابقاً).
- ضد التيار
بالنسبة لمهرجان سان سابستيان، فإن الأمر يختلف بعض الشيء. المهرجان الإسباني (الذي كان المنافس الأول لمهرجان «كان» حتى أربعين سنة مضت) ينطلق وسط طفرة جديدة لوباء «كورونا». هذا لا يبدو مقلقاً بالنسبة لمديره ريبوردينوس إذ يلاحظ أن «رقم الحالات التي تطلّبت علاجاً في المستشفى لم يزد كثيراً عن معدلاته السابقة».هذا لا يعني أن المهرجان الذي سينطلق في مطلع الشهر المقبل لن يأخذ ترتيباته الصارمة حيال الوضع الحالي. مرّة أخرى استفاد المهرجان الإسباني من تجربة زميله الإيطالي، عندما قامت إدارة فنيسيا بتقليص عدد المقاعد المتاحة للجمهور إلى نحو 60 في المائة من قدرة كل صالة على الاحتواء، وذلك بترك مقعد شاغر بين كل مقعدين، وأحياناً ما ترك في صالته الكبرى صفوفاً من المقاعد لم يسع لإتاحتها للجمهور.
ولا يخفي مدير عام مهرجان سان سابستيان أثر نجاح تجربة مهرجان «فنيسيا» على مستوى التحضير لأعمال سان سابستيان الحالية. يقول في حديثه لمجلة «سكرين» البريطانية: «كان نجاح تجربة فنيسيا أخباراً رائعة. البرهان على أننا نستطيع إنجاز مهرجان آمن رغم كل التحديات».ما يأمله المهرجان الإسباني هو استعادة لا ثقة الناس بالمهرجانات السينمائية فقط، بل كذلك ثقتهم بأهميتها أيضاً. مسألتان متباعدتان قليلاً ستعكسان، حين تنتهي أعمال المهرجان خلال الأسبوع المقبل، ما هو أكثر من السباحة ضد التيار... كيف؟
خلال السنوات العديدة الماضية، تحوّل مهرجان سان سابستيان من لقاء بالغ الأهمية بين مهرجانات السينما العالمية، إلى مهرجان يقف (مع كارلوفي فاري ولوكارنو ولندن) في الصف الثاني. قبله يأتي «كان» و«برلين» و«فنيسيا» أوروبياً، و«صندانس» أميركياً، و«تورونتو» كندياً. الوضع الحالي يشبه تحليق الطائرة حال تتجاوز السحب فتستكشف السماء فوقها.ما يأمله المهرجان هو أن يساعده الوباء على استعادة مركزه؛ كونه واحداً من المهرجانات الكبيرة القليلة التي تحدث الوضع الحالي وسط انحسار مهرجانات أخرى عن الوجود. إلى حد كبير يساعده في هذا التوجه حقيقة اتفاقه مع إدارة مهرجان «كان» على عرض أفلام «كان» المهرجان الفرنسي اختارها لدورته التي تم إلغاؤها في النصف الأول من هذه السنة.ما سهّل على سان سابستيان إقامة دورته حقيقة أن عدد الأفلام التي سيستقبلها من إدارة المهرجان الفرنسي يبلغ 16 فيلماً.
هذا لا يأتي مجاناً وبسهولة. الأرقام المعلنة تقول إن الدورة الثامنة والستين من المهرجان الإسباني ستخسر نحو مليون ونصف المليون يورو، بسبب قلّة عدد الحضور وغياب السينمائيين القادمين من آسيا وأميركا، ما حدا بالإدارة إلى تقليص النفقات قد الإمكان.من بين الأفلام التي يعرضها سان سابستيان بعدما تعذّر عرضها في «كان» فيلم اللبنانية دانيال عربيد «شهوة بسيطة» (Simple Passion) وفيلم اليابانية ناوومي كواسي «أمهات حقيقيات»، كما في الدنماركي توماس فنتربيرغ «دراك» (Druk)، وفيلم الفرنسي فرنسوا أوزون «صيف 58».هذا لا يعني أن المهرجان لن يعرض أفلاماً استطاع جمعها بجهده الخاص؛ ذلك لأن هناك نحو 20 فيلماً آخر يعرضها سان سابستيان للمرّة الأولى من بينها: «أنا أخاف أن أنسى وجهك» لسامح علاء، و«جدار الصين» لسانتياغو برازي، كما «براعم الربيع» لسوزان ليندون.
قد يهمك ايضا:
مهرجان الجونة يتعاون مع مهرجان فينيسيا لتقديم جائزة بـ 5000 دولار
تعرّف على المشاريع العربية المتنافسة في مهرجان فينيسيا السينمائي
أرسل تعليقك