الجزائرـ العرب اليوم
دستور توافقي جديد، خطة إنمائية خمسية، ومحاربة الفساد والحفاظ على الاستقرار، هي عناوين لأربع ورشات قرر الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة مباشرة العمل فيها، تنفيذا للوعود التي قطعها قبيل اعادة انتخابه بالأغلبية المطلقة في انتخابات 17 ابريل الماضي.
بالنسبة إلى أكثرية الجزائريين، فإن الفترة القادمة لا تحتمل أي تأخير في تجسيد التعهدات التي أعلن عنها الرئيس بوتفليقة في حملته الانتخابية، وهي كثيرة، يتصدرها الحفاظ على الاستقرار الذي تنعم به مختلف ربوع البلاد ، في ظل أوضاع متردية في دول الجوار.
وفي آخر اجتماع لمجلس الوزراء، في 7 مايو الجاري، أعاد الرئيس بوتفليقة التذكير بالتزامه الوفاء بما قطعه من وعود ، مشيرا في هذا الصدد إلى صون ما تحقق في الصعيد الأمني من سلم وأمن تنعم به الجزائر بعد سنوات من مواجهات مسلحي تنظيم القاعدة والفصائل المنضوية تحت مظلتها.
وحسب الاعلان الرئاسي الصادر عقب الاجتماع الوزاري، قدر الرئيس بوتفليقة بأن الانتخابات التي خاضها وفاز بها "أظهرت مدى النضج الذي يتمتع به الشعب الجزائري الذي قال كلمته بكل حرية وشفافية في انتخابات 17 ابريل الماضي، رافضا الفوضى والعنف والفتنة،وأبان ايضا عن هبة وطنية لقطع الطريق امام الدعاة الى مقاطعة الممارسة الديمقراطية"، في اشارة الى اعتصامات حركة "بركات" (يكفي بالعربية)، وأحزاب معارضة رأت في استمرار بوتفليقة في الحكم لفترة رابعة غلقا للعبة الديمقراطية وتكريسا لمبدأ الحكم مدى الحياة في دولة تتبنى الحكم الجمهوري والانتخابي نمطا لإدارة شؤون الدولة.
وفي هذا السياق، يتصدر الملف الأمني، قائمة أولويات برنامج عمل الرئيس بوتفليقة للفترة المقبلة، خاصة في ظل العمليات المتواصلة للجيش الجزائري وقوات الأمن، ضد معاقل الجماعات المسلحة في مختلف مناطق البلاد، حيث شدد، مثلما جاء في الاعلان الرئاسي، على ضرورة الحفاظ على ما تحقق من انجازات في الصعيد الأمني، على اعتبار أن الاستقرار شرط مطلوب لاستكمال ما تم الشروع فيه من برامج إنمائية، مغتنما المناسبة للإعلان عن اطلاق خطة خمسية، تضع انشغالات المواطنين الاقتصادية والاجتماعية على رأس اهتمام الحكومة التي يرأسها الوزير الأول عبد المالك سلال.
وبعد الملف الأمني، تستحوذ مراجعة الدستور الجزائري ، التي يصفها الاعلام المحلي بأنها "أم المعارك السياسية القادمة"، على اهتمام مختلف أطياف الساحة الحزبية بلا استثناء، حيث يرى فيها الجميع فرصة لإعادة القطار إلى طريقه الصحيح ، مستغلين في ذلك تعهد بوتفليقة بجعل الكرة في مرمى الشارع السياسي وتوسيع نطاق التشاور وتبني الحوار مع كافة قوى المجتمع الجزائري من أجل التوصل الى حد أدنى من التوافق حول الدستور الجديد، ولأجل ذلك عين مدير ديوانه وزير الدولة، أحمد أويحيى، للإشراف على جلسات الحوار مع زعماء الاحزاب والشخصيات الوطنية البارزة.
وفي هذا الصدد، قال جمال بن عبد السلام، رئيس جبهة الجزائر الجديدة"معارضة" في تصريحات نشرت هنا، إن لدى المعارضة قوة الحجة وعليها التنسيق فيما بينها وجمع قواها بعيدا عن الصراع على الزعامة لتشكيل سلطة مضادة والانفتاح على النخب الوطنية المثقفة والمفكرة.
وأضاف أن الحكومة برمجت تعديل الدستور قبل انتخابات الرئاسة ، واجلت المشروع بسبب الجدل الذي أحاط بمسألة إعادة ترشح الرئيس بوتفليقة لفترة رابعة.
وفي نفس الاتجاه، قال محمد ذويبي الأمين العام لحركة النهضة "إسلامية" في تصريحات مماثلة إن الدستور التوافقي الذي تقترحه الرئاسة الجزائرية هو بالأساس مطلب المعارضة وهو يقتضي الاتفاق مسبقا على الجانب الشكلي والموضوعي للتعديل، ونبه من افراغ هذا المطلب من محتواه، وهو ما يستوجب تنبيه الرأي العام إلى خطورة ذلك بهدف الإبقاء على الوضع القائم كما هو.
بالمقابل، يرى جلول جودي الناطق باسم حزب العمال، الموالي للحكومة أن "غالبية الجزائريين يريدون اصلاحا دستوريا عميقا وليس تعديلا فقط"، مشيرا إلى أن الرئيس بوتفليقة سبق له وأن أعلن في عام 2006 عن إطلاق مشروع لمراجعة شاملة وعميقة لدستور البلاد من منطلق أن مصلحة الجزائر تقتضي ذلك وعلى الجميع معارضة وموالاة تحمل المسؤولية.
كما دعا التجمع الوطني الديمقراطي ، الطبقة السياسية بالجزائر إلى العمل على تجاوز المساومات والحسابات الضيقة لأجل إنجاح مسار التعديل الدستوري القادم، معتبرا أن ورشة هذا التعديل مسألة ذات أهمية تسمو فوق كل اعتبار.
وينسحب هذا الموقف على ما يعتبره حزب التجمع الوطني الديمقراطي "تيار الأغلبية"الذي يعتبر بأن التعديل الدستوري مسألة ذات أهمية كبيرة، ينبغي أن تسمو فوق المساومات والحسابات الضيقة التي قال إن بعض الأطراف تسوقها عبر الصحافة في هذه المرحلة الدقيقة وبحجج مختلفة.
وفي هذا الصدد، قال عبد القادر بن صالح أمين عام التجمع إن المواقف "الاستباقية" لأحزاب المعارضة التي دأبت على التشكيك في مسار الإصلاحات التي باشرها الرئيس بوتفليقة تتناقض مع دعواتها للتغيير والإصلاح ، معتبرا بأن التغيير" المنشود هو ذلك الذي يكون بـالتعاون في نطاق القواسم المشتركة ومن منطلق الحرص على المصالح العليا للأمة والوطن.
وكان الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة قد أعلن في أبريل 2013 تشكيل اللجنة التي ينتظر أن ترفع مقترحاتها "في أقرب الآجال"، ليتم بعدها وضع أجندة زمنية لعرضه على نواب البرلمان للتصويت عليه.
وتتألف اللجنة من فقهاء في القانون الدستوري برئاسة الدكتور عزوز كردون وعضوية السيدة فوزية بن باديس والسادة بوزيد لزهاري ووزير العدل السابق غوتي مكامشة وعبد الرزاق زوينة.
وأوضح بوتفليقة في القرار الرئاسي أن مشروع الدستور الجديد سيستند في آن واحد إلى الاقتراحات المعتمدة التي قدمها الفاعلون السياسيون والاجتماعيون وإلى توجيهات رئيس الجمهورية في الموضوع.
وفي منتصف شهر مايو الجاري، دعت الرئاسة الجزائرية أحزاب المعارضة إلى المشاركة في جلسات الحوار والتشاور حول مشروع تعديل الدستور، وكشف بيان صادر عن الديوان الرئاسي عن أن السيد أحمد أويحيى وزير الدولة مدير ديوان رئاسة الجمهورية، هو من سيتولى الإشراف على هذا الحوار، مؤكدا أن التعديل الدستوري المقترح لا يشمل المواد المتعلقة بالثوابت الوطنية وقيم المجتمع الجزائري ومبادئه وهي الدين الاسلامي واللغة العربية والامازيغية.
وبحسب البيان الرئاسي فإن 36 شخصية وطنية و64 حزبا ونوابا برلمانيين و10 منظمات وطنية و 27 جمعية وطنية تمثل حقوق الإنسان والقضاة والمحامين والصحفيين والقطاع الاقتصادي والشباب والطلبة و12 أستاذا جامعيا، معنيين بهذه المشاورات .
وطوال الأعوام 52 الماضية، وهو عمر الجزائر المستقلة، عرفت البلاد أربعة دساتير كانت بمثابة مسكنات آلام لأزمات مؤسساتية عنيفة ناجمة عن رهانات وخيارات سياسية كبرى.
وتتحدث أوساط سياسية عن تشكل تصورين حول الصيغة النهائية للدستور القادم: نظام حكم رئاسي أم شبه رئاسي ، فهناك صيغة أولى تمنح لرئيس الجمهورية صلاحيات واسعة، ويكون مسنودا بنائب للرئيس، على الطريقة الأمريكية، وصيغة ثانية تقوم على تقوية دور الوزير الأول أو رئيس الوزراء الذي يكون اختياره من الأغلبية البرلمانية.
وتعود قصة الجزائريين مع دساتيرهم، إلى يونيو 1962 عندما وضع مؤتمر طرابلس في ليبيا، السلطة بين يدي حزب جبهة التحرير الوطني الذي كان يعاني من الانقسامات والخلافات بسبب من سيحكم الجزائر المستقلة.
وفي نفس المؤتمر تقرر أيضا تشكيل مجلس وطني تأسيسي توكل إليه مهمة أعداد دستور البلاد والإشراف على مرحلة انتقالية تنتهي بانتخابات رئاسية وبرلمانية ترسي دعائم دولة قوية مستقرة.
لكن ما حدث بعد ذلك كان مغايرا تماما لما تم الاتفاق عليه، فقد شكل المجلس لكن بأعضاء من جبهة التحرير الوطني التي كان يتزعمها الرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بلة ، وجرى تعيينهم بدل أن يمر ذلك عبر صناديق الانتخاب.
ورغم مساعيه لبلوغ الهدف الذي رسمه، وهو تعزيز دعائم حكمه، وجد بن بلة نفسه ضحية لانقلاب عسكري قاده وزير الدفاع العقيد هواري بومدين في 19 يونيو 1965 انتهى به إلى السجن لما يقل عن 15 عاما.
وبمجرد أن أمسك بزمام الأمور، ألغى بومدين دستور بن بلة ووعد بالعودة إلى الحياة الدستورية في أقرب وقت.
وبهذا القرار، دخلت الجزائر مرحلة غير دستورية وكان لزاما على بومدين الوفاء بما قطعه على نفسه أمام مجلس الثورة والشعب الجزائري، لكن صعوبة المهمة جعلته يبحث عن أقصر طريق لإعادة السكينة في نفوس الشارع الجزائري التواق للاستقرار بعد نحو 132 عاما من الاحتلال الفرنسي.
فلجأ بومدين إلى إصدار قرارات وصفت بالثورية، أبرزها تأميم الشركات النفطية الفرنسية، وإطلاق الثورات الثلاث: " الزراعية والصناعية والثقافية " ، فدخلت البلاد مرحلة استقرار سياسي نسبي لكنها كانت ناقصة للشرعية الانتخابية فقرر المضي قدما في مشروعه الرامي لإرساء قواعد حكم مستقر، بإطلاق مبادرة "الميثاق الوطني" بغية تأمين حكمه بحد أدنى من الاجماع والتوافق الوطني.
وطيلة شهر مايو من العام 1976، ترأس بومدين جلسات ماراثونية للنقاش والحوار مع مختلف الفعاليات الاجتماعية والمهنية والعمالية والمنظمات الاهلية والفلاحين حول مبادئ الميثاق الوطني، الذي كان بمثابة تحضير لمسار بناء مؤسساتي بدأ في شهر نوفمبر من نفس العام بإجراء الاستفتاء على الدستور، ثم انتخابات الرئاسة في 10 ديسمبر "نفس العام" والتي فاز بها بصفته المرشح الوحيد ، وبعد عامين من ممارسة مهامه كأول رئيس منتخب للبلاد، توفي بومدين تاركا جبهة التحرير ومؤسسات الدولة في أزمة طاحنة.
وبعد اجتماعات مضنية للجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني لاختيار خليفة لبو مدين في أمانة الحزب يكون المرشح الوحيد لتولي رئاسة البلاد، اقتنع قادة الجيش أن الخلافات أصعب مما قد يتصوره أعضاء اللجنة المركزية، فقدموا العقيد الشاذلي بن جديد كحل وسط لتلك الخلافات.
وفي ظرف الشهرين المواليين، راجع الرئيس بن جديد الدستور مرتين، المراجعة الأولى بإيجاد حل لمشكلة تعيين رئيس الجمهورية وأمين عام جبهة التحرير "الحاكم" في حال شغور المنصب، والثانية لما أدرج مادة استحدث بموجبها مجلس المحاسبة لمحو فترة حكم بومدين وإبعاد "البو مدنيين" من المشهد السياسي.
وعلى مدار العشر سنوات، قام بن جديد "توفي الخريف الماضي" بإحداث تحولات وتغييرات في مؤسسات الدولة والمجتمع الجزائري، بدءا من تطليق الادارة الاشتراكية للاقتصاد والسماح ببروز القطاع الخاص، وفتح القطاع النفطي امام الشركات الاجنبية للعودة بعد عقدين من صدور قرار التأميم.
لكن الظروف التي أحاطت بهذه القرارات، لم تكن ملائمة بسبب تزامنها مع انهيار أسعار البترول الذي تعتمد البلاد على عائداته لتمويل ميزانيتها السنوية بنسبة لا تقل عن 98 بالمائة، فدخلت الجزائر في نفق الاضطرابات الاجتماعية والقلاقل الأمنية، انتهت بنزول الجزائريين إلى الشارع في الخامس من أكتوبر 1988 مطالبين بإبعاد جبهة التحرير عن الحكم وعودة الجيش إلى الثكنات.
ولم يكن أمام بن جديد سوى الرضوخ لهذه المطالب، فقام بتعديل الدستور في نوفمبر 1988 ألغى بموجبه احتكار حزب جبهة التحرير للمناصب في الدولة والمؤسسات الاقتصادية، وانسحاب الجيش من عضوية اللجنة المركزية للحزب.
لكن ما يمكن اعتباره ثورة دستورية حقيقية، تحسب لبن جديد، هو دستور فبراير 1989 الذي فتح الباب على مصراعيه أمام ظهور احزاب سياسية معارضة للحكم، وتحرير الاعلام والاقتصاد والتجارة الخارجية.
وكان من نتاج هذا الدستور صعود التيار الاسلامي، الذي استحوذ بشعاراته وخطابه المعارض للحكم، على الشارع في زمن قياسي، واستطاع الفوز بانتخابات المجالس البلدية في يونيو 1990، وبالجولة الأولى لانتخابات البرلمان في ديسمبر 1991، قبل أن يقرر الجيش وقف المسار الديمقراطي والغاء نتائج الانتخابات.
أمام هذه الوضعية، لم يكن أمام بن جديد سوى حل واحد، هو الخروج في 11 يناير 1992 من القصر الرئاسي، تاركا المجال أمام قيادة جماعية عرفت بالمجلس الأعلى للدولة.
ولعل ما يحسب لبن جديد أيضا هو اعترافه بفشله في تحقيق الاجماع الوطني حول إصلاحاته التي يعتبرها خصومه سببا في دخول البلاد في غياهب أزمة أمنية ذكتها مواقف التيارين الاسلامي المتشدد والعلماني المتطرف، فغرقت الجزائر في أعمال القتل والتدمير الذاتي طيلة عشر سنوات لا تزال بعض آثارها بادية إلى غاية اليوم.
وباستلام المجلس الأعلى للدولة زمام الحكم، أعلنت حالة الطوارئ وعادت البلاد إلى الحياة غير الدستورية مجددا، وانتظر الجزائريون انتهاء الفترة الانتقالية التي حددها المجلس ليتولى الجنرال الأمين زروال الحكم في 24 يناير 1994، والبلاد تعاني أزمة أمنية بلغت أوجها بعدما حمل بعض الجماعات المتشددة السلاح وجعلوه لغة حوار وحيدة مع الحكم.
ومن أجل استعادة ما يمكن استعادته من ثقة، أعلن زروال عن استئناف المسار الانتخابي الموقف منذ عام 1992، بتنظيم انتخابات رئاسية في نوفمبر 1995، فاز بها بصفته مرشحا للإجماع الوطني لا يحمل قبعة أي حزب سياسي، وأتبع ذلك إجراء استفتاء على دستور جديد للبلاد في نوفمبر 1996، تضمن استحداث غرفة برلمانية ثانية"مجلس الأمة" يعين ثلث أعضائها من طرف رئيس الجمهورية وتكون بمثابة الحاجز الذي يمنع استيلاء الاسلاميين أو غيرهم من القوى السياسية تفاديا لتكرار سيناريو انتخابات 1991 الملغاة.
المصدر: قنا
أرسل تعليقك