بكر عويضة
حسنا، وجب القول: وداعا باربرا والترز. كما تعرفون، في السادس عشر من الشهر الماضي، انسحبت نجمة تألقت في ساحة المقابلات التلفزيونية العالمية، فالتقى معجبوها وحسادها على أنها جديرة بوصف «ملكة» الحوارات المتلفزة، مع أن الأنسب، في تقديري، أنها سيدة الحوار التلفزيوني المذاع دوليا، إذ كانت شخصيتها تتسيد الموقف في كل حوار أجرته مع زعماء أصحاب تأثير، سواء بفعل أدوارهم، أو لعجائب اتسمت بها شخصياتهم. تذهب باربرا والترز إلى التقاعد الاختياري، إنما تبقى حاضرة في الأذهان مقتطفات من حواراتها لفتت في حينها الانتباه، إما لأنها أثرت بقرار ما، أو لإثارتها كثير استغراب، وربما بعض التندر. من ذلك، على سبيل المثال، حين سألت صدام حسين عن غياب أي انتقاد له داخل العراق، فإذا به يرد بسؤال مناقض خلاصته: وهل ينتقد الأميركيون رئيس الولايات المتحدة؟
تلك واقعة تلفزيونية شهدتها مقابلة باربرا والترز للرئيس العراقي خلال عنفوان كارثة احتلاله للكويت (15 نوفمبر - تشرين الثاني 1990) ويمكن إدراجها في قائمة أقوال جديرة بالتذكر (MEMORABLE) قالها زعماء وساسة، أو نجوم ومشاهير، وتبقى حاضرة بعد غيابهم عن المشهد باعتزالهم أو رحيلهم. أتذكر الآن كيف أن عبارة صدام حسين تلك أثارت عندي، مثل كثيرين غيري، تساؤل المندهش: أيعقل أن يكون زعيم بمثل تلك الهالة في بلده وما حولها، على مثل ذلك القدر من الجهل بأمور الدنيا من حوله؟ يجب أن أبادر فأعترف هنا أنني رغم دهشتي آنذاك، لم أستبعد احتمال صدق اندهاش صدام حسين أن يكون بين الأميركيين من يجرؤ على انتقاد ساكن البيت الأبيض، وبدا لي أن تفسير ذلك يسير، فالآتي إلى القصر الجمهوري ببغداد من بلدة تكريت لم يتسنَ له أن يجوب العالم، وربما باستثناء فترة لجوئه السياسي في مصر، بعد فراره إليها إثر فشل محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم، لم يعش الرجل خارج العراق، ولعله لم يكن يقرأ بغير لغته العربية، وحتى ضمنها ربما لم يغادر صفحات صحف ومجلات ملتزمة بعثيا، إلا ليطالع كراسات أو كتب التثقيف البعثية. أكرر أن ذلك مجرد توقع وليس بالضرورة نتيجة بحث دقيق، ومبعثه محاولة فهم لماذا يعجز حاكم في مثل موقع صدام حسين وقوة زعامته، عن فهم كيف يحكم بلدا بقوة الولايات المتحدة، ويزعم أنه سيهزمه؟ ثم إنني رحت أتساءل وألحظ المفارقة بين عجز صدام حسين عن تصور إمكانية انتقاد الأميركيين لرئيسهم، وبين علمه التام، وربما انتشائه، بالحرق اليومي لعلم أميركا وإلصاق صور رئيسها عند مداخل فنادق الخمس نجوم البغدادية، بقصد دعس الأقدام عليها.
بدا الجواب المباشر، مذ ذلك الوقت، أن الرجل لم يكن يرى أحدا تجوز له العصمة سوى شخصه. ولم يكن صدام حسين فريد عصره أو وحيد زمانه، لم يحتكر حالة تقديس الشخص، بل تنافس معه في هيمنة الحضور الطاغي، عبر ملايين الصور وآلاف التماثيل المنتشرة والمنتصبة بقرى البلاد ومدنها، كل من لبس الدور ذاته، فغرق في بحر عسله، وأغرق البلاد والعباد في بحور دم وأهوال حروب، من دون أن يرف له جفن، حتى تهاوى التمثال وفر الشخص، لكن بينهم من لا يزال ينتظر، وإني لأعجب كلما طالعني مشهد تلفزيوني لأحدهم يلوح بعصاه يضرب بها الريح أمام ناس بلده، كأنما هم قطيع يسوقه، كيف صبر عليه هؤلاء حتى زمنه هذا؟ ثم إن البعض من ورثة حكم تقديس الشخص، فيما مضى وما هو مقبل، ليس أقل شراسة عندما يتعلق الأمر بافتراس أي معترض، والشواهد ماثلة للعيان، لمن يريد أن يسمع ويبصر.
لكن، ما علاقة كل ما سبق بخامس يونيو (حزيران)؟ هل صدام حسين، ومن شابهه، الراحل منهم والمنتظر في رحم الغيب، مسؤولون عن هزيمة خامس يونيو 1967؟ كلا، ليس الأشخاص، إنما الحالة. حقا، فما حصل قبل سبعة وأربعين عاما من يومنا هذا وثيق الصلة بالنتيجة المترتبة على أي حكم الأساس فيه هو الفرد. لكنني أسارع هنا إلى وضع هامش يفرق بين جمال عبد الناصر الحاكم، وبين الشخص، ولن أزعم أن ذلك منزه عن إعجاب شخصي من طرفي بشخص عبد الناصر، كيف لا وقد تعلق القلب بما شكلته زعامته من أمل منذ الصغر؟ بيد أن غرض ذلك الهامش ليس رفع مسؤولية عن عبد الناصر اعترف بها هو ذاته، بل إنصاف الرجل قياسا بتصرف من مارسوا استبدادية الحكم في دولهم من منطلق ادعاء استلهام شخصيته. صحيح أن أجهزة نظام عبد الناصر ألحقت أذى بمعارضيه تعددت أشكاله ومستوياته، وصحيح أيضا أن بريق زعامة العالم العربي بأكمله، والانطلاق منه إلى آفاق آسيا وأفريقيا، أسهم في تضخم «أنا» الزعامة لدى الرجل، كل ذلك صحيح، وعلى الأرجح أنه لعب دوره في دفع جمال عبد الناصر نحو سياسات حافة الهاوية بلا اكتراث لضرورة التشاور مع قيادات سياسية أو عسكرية، أو الأخذ بوجهات نظرها، فكان الوقوع في براثن حرب اليمن، وكان الاندفاع إلى إغلاق باب المندب ومضايق تيران أمام سفن إسرائيل، بعد استفزاز زعامته من جانب قادة حزب البعث السوري وإعلامه. نعم، كل ذلك كان له دوره في الانتهاء إلى ما انتهت إليه جيوش ثلاث دول عربية أمام «جيش الدفاع الإسرائيلي» خلال ستة أيام مهينة، لكن ذلك كله أيضا يجب ألا يغفل واقع أن جمال عبد الناصر لم يعطِ نفسه لقب «القائد الخالد»، تلك بدعة اخترعت بعد وفاته، وما أغرق شوارع مدن مصر وقراها بتماثيله، وبين خصومه من يؤكد أن سلوك عبد الناصر الشخصي كان أبعد ما يكون عن تقديس الشخص.
هل تصنع حالة عبادة الشخصية ذاتها بذاتها فقط لأن هالة الزعيم تفرضها؟ ذلك ضرب من المستحيل، إذ بلا إعلام يمجد الشخص، وينفخ في صور زعامته، كي تنتفخ صورته حتى كأن التاريخ لم ينجب مثله من قبل، ولن يلد بعده كفؤا له، من دون ذلك الإعلام على وجه التحديد، ليست تقوم لعبادة الشخصية قائمة. وإذا قيل لبعض مشاهير إعلام العرب، من قبل والآن وفي مقبل الأيام، إنهم لكثرة ما نفخوا في صور زعامات استبدادية، صاروا هم أيضا يشبهونها في أساليب ممارسة سلطاتهم، صرخ الواحد منهم: لا، لا، لا، هذا تشويه سمعة هدفه فقط اغتيال الشخصية (!!). حسنا، تلك قصة جديرة بالعودة إليها، ولعل في أرشيف حوارات السيدة والترز نفسها ما يعين على ضرب بعض الأمثلة. إلى اللقاء باربرا.