بقلم - مصطفى الفقي
أدى التزامن بين الموجة الثانية من وباء كورونا واحتفالات المصريين بعيد انتصارهم وذكرى عبورهم إلى تأمل ظاهرة مشهودة فى تاريخنا وتدور حول استعداد المصرى لمواجهة الخطر وتفاعله مع جدية الحدث، فالجيش المصرى وخلفه شعبه العريق حقق انتصارًا لم يكن متوقعًا بالمقاييس الدولية ولكنه كان مؤكدًا بالمعايير الوطنية، فالشعب المصرى لم يبتلع الهزيمة، ولم يقبل نتائجها الظالمة فانتظمت صفوفه وراء قيادته طلبًا للثأر ورغبة فى تحرير الأرض واستعادة الكرامة والكبرياء لشعب تضرب جذوره لما يقرب من خمسة آلاف عام من التاريخ المكتوب، وهو نفسه الشعب المعروف بروح السخرية اللاذعة والاستخفاف بالأشياء ما لم يكن على يقين من أهميتها وإدراك كامل لخطورتها، وذلك ما حدث فى مصر- كجزء من حالة عالمية شاملة- عندما غزا فيروس كورونا الأجساد المصرية كغيرها فى أنحاء العالم، عندئذ استجاب المصريون لدواعى الخطر والتزموا إلى حد كبير بمعايير الإدارة الناجحة التى قادتها الحكومة المصرية فى مواجهة الوباء الذى كان يمكن أن تكون نتائجه كارثية بالمعنى الكامل للكلمة، فالمصريون اجتماعيون بالطبيعة مزدحمون فى الأماكن بالضرورة يميلون إلى الاختلاط والثرثرة والاسترخاء إلا إذا شعروا بأن هناك ما يدعو إلى غير ذلك، فالفطنة المصرية موروثة منذ القدم والخطر يستنفر فى المصرى معدنه الأصيل ويجعل الحذر بديلًا للسخرية والجدية بديلًا للاسترخاء ويستفز فيه أقوى ما لديه الإرادة وشجاعة المواجهة، وإذا كانت حرب أكتوبر هى النموذج الكبير لوضوح هذا المعنى فإن مواجهة وباء الكورونا فى موجتيه هى تعبير إضافى عن المعنى الذى نتحدث عنه ونشير إليه، فعندما مضى المصريون فى حرب أكتوبر- جيشًا وشعبًا- كان واضحًا أن الإرادة العنيدة لابد أن تصنع النصر، وأن تزيل آثار الهزيمة فاختفت الجرائم الجنائية، والاختناقات التموينية، وحتى حركة المرور تميزت باليسر والسهولة فلقد وعى المواطن المصرى أنه أمام معركة حياة أو موت، معركة قدر ومصير، معركة وجود وكبرياء فخاضها فى شجاعة وبسالة بصورة تأكدت بها شخصية الجيش المصرى وقدراته التدريبية الهائلة التى جعلته ينتزع نصرًا تاريخيًا من أحشاء هزيمة نكراء، إننى أكتب هذه السطور لكى أقول لنفسى ولغيرى من أبناء الوطن إن لدينا طاقات كامنة لا تظهر إلا فى الشدائد كما أن لدينا وعيًا متأصلًا يطفو على السطح عند اللزوم، وإننا عندما نواجه تحديًا كبيرًا نمضى وراء الحاكم الجاد والسلطة الوطنية سعيًا نحو غاياتنا العظام وأهدافنا الكبرى، وإذا كانت المقارنة بين أجواء حرب أكتوبر المجيدة وبين أسلوب مواجهتنا لوباء الكورونا لا تبدو متعادلة إلا أن الروح المصرية واحدة فى كل الحالات الصغيرة والكبيرة وأمام كافة التحديات المتأصلة أو العابرة، وهنا يحسن أن نطرح ملاحظتين هامتين:
أولًا: إن هيبة الدولة فى أعين المواطن هى عنصر حاكم فى تحديد نظرة المصرى لما يدور حوله وللخطر الذى يتهدده، ولذلك ترى التزامه صارمًا على غير المتوقع، ومازلت أتذكر الأسابيع الأولى لوباء الكورونا عندما كان يصعب أن ترى مواطنًا لا يضع الكمامة على وجهه أو يبادر بتصرف يخرق به حالة الحذر التى فرضتها الحكومة بمهنية عالية ونجاح واضح، من هنا فإن هيبة الدولة عامل أساسى فى تحديد جدية الموقف ودرجة الالتزام بالضوابط والمعايير المطروحة.
ثانيًا: إن القدوة قضية فاعلة فى التاريخ المصرى، فحين يرى المواطن أن رئيس الدولة يضع الكمامة على وجهه فى الاجتماعات الدولية والمحلية يدرك جدية الأمر خصوصًا فى ظل أصداء أحداث عالمية جعلت وباء الكورونا محورًا لحركة المجتمع الدولى عدة شهور وقد تطول إلى عدة سنوات، ولكن الدرس الذى خرجنا به هو أننا يجب أن نتعايش مع الخطر مهما طال وجوده أو اشتد تأثيره، فالحياة بطبيعتها صعود وهبوط، تقدم وتراجع، سعادة وألم.
إن ما جرى يؤكد لنا أن رصيدنا المتميز فى تاريخنا يبدأ من القوات المسلحة وجيشنا الظافر إلى جيش آخر هو جيش المعاطف البيضاء الذى يعكس التاريخ العريق لمهنتى الطب والتمريض فى بلادنا، فتحية للجيشين ذلك الذى عبر وانتصر، وذلك الجيش الآخر من كتائب رجال ونساء الرعاية الصحية فى بلادنا والذين قدموا شهداء على مذبح الكورونا إيمانًا برسالتهم واحترامًا لدورهم فكانت قوافل الجيش الأبيض فى معركة الكورونا هى امتداد لمعركة الجيش الظافر عام 1973.