بقلم - مصطفى الفقي
سوف يظل المشهد المخزى الذى جرى فى واشنطن عندما هاجمت مجموعات من أنصار الرئيس دونالد ترامب مقر الكونجرس وعبثوا ببعض ما فيه فى تصرف غوغائى أرعن، عندما جرى ذلك أيقنت أن شمس الديمقراطية الأمريكية قد بدأت فى الغروب، لأن الديمقراطية ليست مجموعة طقوس أو حتى ممارسات ولكنها مناخ سياسى وبيئة فكرية تحتم احترام القانون وسيادة رأى الأغلبية والقبول بالنتائج التى تأتى بها الانتخابات العامة مهما كانت المفاجآت ومهما بلغت درجة الإحساس بالمرارة لدى المهزوم، فتلك ظاهرة طبيعية تبدأ من الرياضة ولا تنتهى بالسياسة، لأن كل تنافس فيه رابح وخاسر فى كل الأحوال، وإذا كانت الديمقراطية فى أدق تعريفاتها هى أنها تلك التى تقترن بدولة سيادة القانون واحترام الرأى الآخر والقبول بقرار الأغلبية، وهو ما غاب مؤخرًا عن الساحة الأمريكية فى تأكيد لحالة التدهور التى تعانى منها الديمقراطية فى بلاد كنا نتصور أنها أبعد ما تكون عن ما حدث، ولكن الذى جرى فى الشهور الأخيرة قد جعلنا نخشى على مفهوم الديمقراطية الحقيقية من تلك الممارسات الشاذة والتصرفات غير المسؤولة حتى إننا نظن أن العنصرية البغيضة تكاد تطل برأسها على المجتمع الأمريكى بعد أن غابت عقودًا نتيجة الجهود المضنية للآباء العظام وفى مقدمتهم إبراهام لنكولن، لقد كنا نظن أن الممارسات اللاديمقراطية وأن العبث بالقانون هما صفتان تندرجان تحت ظاهرة التخلف الذى تعانى منه مجتمعات الجنوب، وحتى الربيع العربى التمسنا له عذرًا بحداثة التجربة ونقص الوعى وفقر الإمكانات، ولكننا فوجئنا بالخريف الأمريكى يأتى عاصفًا مدويًا لكى يضعنا أمام حقائق جديدة لم تكن فى الحسبان وفى مقدمتها:
أولًا: إن قيام المؤسسات الدستورية والنيابية لا يكفى للحديث عن ديمقراطية سليمة أو مجتمعات سوية، فالتدهور فى منظومة الديمقراطية الغربية بدأ منذ سنوات عندما كذبت الإدارة الأمريكية فى واشنطن حول التسليح النووى للعراق ودعمها فى ذلك رئيس وزراء بريطانيا حينذاك الذى كان تابعًا للرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش بصورة كاملة، ثم كانت الأحداث العنصرية المؤلمة التى جرت فى السنة الأخيرة من حكم الرئيس ترامب، وقد أثبتت جميعها أن ما كنا نتغنى به ويتشدق به الغربيون لم يعد قائمًا على النحو الذى تصورناه وعشنا به، إذ إننى أظن أن ما جرى من اقتحام للكونجرس الأمريكى والفوضى التى صاحبت ذلك إنما هى بمثابة مأتم للديمقراطية بعد عرس مزدهر تصورناه منذ نجحت حركة الحقوق المدنية فى خمسينيات القرن الماضى أن تطرح صيغة جديدة للتعايش المشترك بين القوى المختلفة فى المجتمع الأمريكى، فإذا الذى جرى يقلب الصورة تمامًا ويحطم دستورًا تاريخيًا ملخصه عبارة (لدى حلم) ليضع بديلًا لها صورة الجندى الأمريكى الذى وضع حذاءه على رقبة مواطن أمريكى إفريقى أمام شاشات التليفزيون والضحية تودع الحياة فى مشهد فظيع يدين حضارة العصر ويلفظ ثقافة الديمقراطية التى قتلها أصحابها وهجرها شعبها.
ثانيًا: إن اهتزاز الصورة الأمريكية مرتين فى فترة واحدة، أولاهما أمام وباء الكورونا، والثانية فيما اعترى عملية النقل السلس للسلطة من إدارة أمريكية راحلة إلى إدارة أمريكية قادمة، فكان الإخفاق فى الأمرين معًا هو دليل على محنة المجتمعات الغربية المتقدمة التى كنا نرى فيها نموذجًا للمستقبل فإذا بأصحابها يحطمون الصورة الوردية ويشوهون مسيرة الحريات فى وقت يتشدقون فيه بحقوق الإنسان ويوجهون انتقادًا عنيفًا لدول تفرض عليها ظروفها بعض الخروقات المؤقتة فى حالات فردية ترتبط بجرائم الإرهاب والخروج المستمر على النص الوطنى، فإذا الحال من بعضه – كما يقولون – والنموذج قد تحطم والصورة الوردية لم تعد تبث إشعاعها من واشنطن كما توهمنا عبر السنين.
ثالثًا: إن ما جرى فى واشنطن ليس مجرد انتكاسة للديمقراطية الغربية ولكنه هزيمة لها فى كل مكان وعودة إلى الوراء لعشرات السنين، ومهما كانت المبررات فإننا قد رأينا تصرفات غوغائية وفوضى عارمة توحى بأن الذى حدث إنما هو يوم حزين فى تاريخ الديمقراطية الحديثة وبقعة سوداء على الثوب الأبيض لجورج واشنطن ودستور فلاديلفيا منذ إعلان الاستقلال، ويجب أن أنبه هنا إلى أن مثل هذه الأمراض السياسية هى أمراض معدية بطبيعتها وقابلة للتكرار فى كثير من الأحوال.
دعنا نأمل فى عودة الاستقرار لأغنى وأقوى أمة على الأرض، لأن اهتزاز صورتها على النحو الذى شهدناه سوف يجلب علينا أحداثًا مثيلة وصورًا بديلة تجعلنا نتباكى على شمس الديمقراطية التى كانت واعدة ثم وصلت إلى غروبها الحزين!.