عبد الباري عطوان
يبدو ان تعاظم التورط العسكري الامريكي في قضايا وبلدان المنطقة العربية، جعل “فيروس″ التضليل والكذب ولي عنق الحقائق، بما يناسب الرئيس، وكبار المسؤولين، يتغلغل في مفاصل مؤسساتها، فمن عاشر القوم اربعين يوما صار منهم.
الاربعاء كشفت صحيفة “نيويورك تايمز″ اجراء وزارة الدفاع الامريكية “البنتاغون” تحقيقات في احتمال لجوء مسؤولين عسكريين الى اعادة كتابة تقارير استخبارية تقدم الى الرئيس باراك اوباما لاعطاء نظرة اكثر ايجابية بشأن اداء التحالف العسكري ضد تنظيم “الدولة الاسلامية” في ميادين القتال في سورية والعراق.
اعادة كتابة التقارير الاستخبارية، بما يرضي الحاكم من الممارسات المألوفة في منطقتنا العربية، وتوظيف محطات التلفزة لتقديم صورة مضللة عن الحروب المتفجرة حاليا في اكثر من دولة عربية، مثل سورية والعراق واليمن وليبيا، قضت على القليل المتبقي من مهنية ومصداقية معظم هذه المحطات، ان لم يكن كلها، ولكن ان يقدم محللون عسكريون امريكيون على لعبة التزوير العربية نفسها، ويقدمون صورا كاذبة وخادعة لرئيس دولتهم، فهذا امر لم يخطر مطلقا في ذهننا.
***
المتحدث الرسمي باسم “عاصفة الحزم” العميد احمد عسيري اعلن الانتصار في اليمن، وبات يتلقى التهاني من صحافيين ومسؤولين بعد اقل من شهر من بدء القصف الجوي، ومحطات دول التحالف مثل “الجزيرة” و”العربية” واخواتها الخليجيات تتحدث كل يوم عن انتصارات، وسقوط مدن هنا، واخرى هناك، ولا تتطرق مطلقا للحصار الخانق برا وبحرا وجوا، وضحايا القصف من المدنيين والبنى التحتية، فقط عن ضحايا قصف الحوثيين، ولا ذكر اطلاقا للقنابل العنقودية المستخدمة التي ادانتها منظمة “هيومن رايتس ووتش”.
صحيح ان المؤسسات الامنية والعسكرية الامريكية تملك وحدات خاصة تضم خبراء في تضليل شعوب العالم الثالث، وبث الاكاذيب، وممارسة اساليب اغتيال الشخصية، لهذا الزعيم العربي او ذاك، لتأليب الرأي العام في بلاده ضد حكمه، او لترويضه واخضاعه لسيطرتها، او الاثنين معا، ان تضلل رئيسك، ودائرة صنع القرار في بلادك، فان هذا سقوط اخلاقي واختراق سافر لكل الخطوط الحمراء والصفراء والزرقاء.
نعم.. اجهزة المخابرات الامريكية بثت العديد من التقارير الكاذبة الى الرئيس الامريكي ووزرائه طوال الاشهر التي تلت سيطرة “الدولة الاسلامية” على الموصل، تؤكد جميعها ان القدرات القتالية لهذه “الدولة” قد جرى اضعافها بشكل كبير بسبب الغارات الامريكية الجوية المكثفة، وتبنى الموقف نفسه الرئيس الامريكي ووزراء الدفاع والخارجية في حكومته، لنكتشف بعدها، ومن خلال استيلاء “قوات الدولة” على مدينتي الرمادي (في العراق) وتدمر (في سورية) مدى كذب هذه التقارير ومحلليها.
اشتون كارتر وزير الدفاع الامريكي اقر الاسبوع الماضي بأن الحرب للقضاء على “الدولة الاسلامية” صعبة للغاية، رغم اكثر من خمسة آلاف غارة جوية، وقد يحتاج الامر عدة سنوات، ان لم يكن عدة قرون، ولعل هذه التصريحات التشاؤمية جاءت بعد كشف اعمال التزوير للتقارير الاستخبارية التي تتحدث عن تحقيق تقدم كبير في الحرب ضد “الدولة الاسلامية”.
منذ خمسة اشهر والمسؤولون العراقيون والامريكيون يتحدثون عن قرب استعادة مدينة الرمادي، واخراج قوات “الدولة الاسلامية” منها كتمهيد للحرب، لنفاجأ بأنها سيطرت، اي الدولة، على نصف مدينة بيجي التي تضم المصفاة التي يغطي انتاجها ستين في المئة من احتياجات العراق من المحروقات، والاهم من ذلك اقدام ستة انغماسيين (انتحاريين) امس بمهاجمة تجمع للقيادة العراقية وقتل ضابطين، الاول برتبة لواء ركن، والثاني عميد ركن شمال مدينة الرمادي.
***
المفاجأة ان منفذي هذا الهجوم الانتحاري في اربع عربات ملغمة، كانوا من ست جنسيات مختلفة، من المانيا وتونس والسعودية وطاجيكستان وفلسطين، وبالتحديد من غزة، والاخير ربما ينبيء بقرب فتح “الدولة” لفرع لها في القطاع ان لم تكن قد فتحته فعلا.
اما في سورية فقد سيطرت قوات التنظيم على خمس قرى في ريف حلب، وتتقدم حاليا الى اطراف بلدة مارع بعد ان انسحبت قوات جبهة النصرة منها، حتى لا تصطدم مع المشروع التركي الامريكي الذي يريد تحويلها الى “منطقة عازلة”، مما قد يعني ان قوات “الدولة الاسلامية” تقوم بتوجيه ضربة استباقية لافشال هذا المشروع التركي الامريكي المشترك الذي يريد اغلاق هذه المنطقة العازلة في وجهها، وتحويلها قاعدة انطلاق لتصفيتها.
القيادة العسكرية الامريكية التي تزور التقارير العسكرية الميدانية تخدع نفسها وقيادتها، وتخدم “الدولة الاسلامية” في الوقت نفسه، ولهذا تواجه المخططات الامريكية الفشل تلو الآخر، بينما تتقدم هذه الدولة وتتمدد.
وطالما ان هذه القيادة الامريكية ومحلليها الاستراتيجيون باتوا يعتمدون اساليب نظرائهم العرب، فاننا نقترح على حلفاء امريكا ارسال “خبراء” عرب، خاصة من محللي الفضائيات العربية، لاعطائهم دروسا متقدمة جدا في هذا المضمار.