ما كادت طائرة بابا الفاتيكان تغادر العراق، حتى ارتفعت وتيرة الصواريخ الحائرة والطائرات المُسيرة التي تستهدف السعودية انطلاقا من الأراضي التي يسيطر الحوثيون عليها في اليمن. لكن التطور الميداني الأبرز كان في استهداف طائرة مسيرة لخزان بترولي في ميناء رأس تنورة، بالاضافة الى سقوط شظية من صاروخ بالستي قرب مجمع سكني يقطنه الآف الموظفين التابعين لشركة أرامكو في مدينة الظهران، من دون وقوع خسائر بشرية.
وبعيدا عن بيانات الشجب والاستنكار للدول العربية والاجنبية، وعن كون هذا الاستهداف يشكل تهديدا جديا على أمن الصادرات البترولية وحرية التجارة العالمية وحركة الملاحة البحرية، فضلا عن الكوارث البيئية في المياه الاقليمية بسبب احتمالية تسرب المنتجات البترولية الناجمة عن هذه الاعمال الحربية العدوانية. وبعيدا أيضا عن الاجراءات الأمنية الدفاعية التي ستضطر السعودية الى اعتمادها حماية لأمنها ولمقدرات ثروتها النفطية والبترولية، فإن استهداف ميناء رأس تنورة يشكل تحوّلا حقيقيا في الحرب على السعودية خاصة ودول الخليج العربي عامة.
انها الحرب التي لم تعد تتلطى ايران فيها خلف الحوثيين في اليمن، رغم اعلان الحوثي مسؤوليته عن استهداف ميناء رأس تنورة. لكن هل فعلا أن الحوثي هو من استهدف رأس تنورة، وهل فعلا أن الحوثي إياه هو من سبق واستهدف معامل أرامكو في بقيق. وهل بات للحوثي مواقع لمنصّات صواريخ ايران البالستية وطائراتها المسيرة في جنوبي العراق حتى يعلن مسؤوليته عنها؟
الوقائع الميدانية المتناسلة في تطورها ونوعيتها، باتت تشي بوضوح عار من كل التباس أن ايران طوّرت أساليب حربها على السعودية، بل ووسعت محور وجبهات هذه الحرب بحيث لم تعد محصورة بالحيّز اليمني. فقد أتى استهداف ميناء رأس تنورة ليثبت أن استهدافه وايضا استهداف معامل بقيق عام 2019 قد حصل من الحدود الاخرى مع السعودية، ونعني جبهة جنوبي العراق حيث تنتشر منصات صواريخ ايران البالستية وايضا طائراتها المُسيرة. وإن عبارة المتحدث باسم التحالف تركي المالكي أن المسيرات أتوا من البحر يحمل الاجابة الدقيقة التي تحصر الاتهام بايران دون تسميتها، لكن المتحدث السعودي لم يحدد بالضبط من أي بحر انطلقت المسيرات، أمن بحر ايران، أم من بحر البصرة في جنوبي العراق؟
بدون شك إيران المراقبة بالأقمار الصناعية والرادارات المختلفة والميكروسكوبات الما بعد الدقيقة، أذكى من أن تتورط مباشرة سواء في إطلاق الصواريخ، أو المسيرات المفخخة. ولأجل هذا الذكاء صرفت الكثير من الجهد والوقت والمال وايضا الصبر الاستراتيجي في سبيل انتاج هذا العدد الكبير من الميليشيات في العراق وغيره بعد فحص وتخصيب ولاءاتها العقدية والفقهية، ما جعلها تجيد اللعب مع الولايات المتحدة الاميركية في العراق الذي تحوّل الى كيس رمل دفاعا عن ايران.
وفق هذا السياق الاستراتيجي من التحولات في المنطقة ينبغي النظر الى استهداف ميناء رأس تنورة، وايضا مدينة الظهران. انه السياق الذي يقول أن ايران انتقلت الى صفحة جديدة من الحرب على السعودية. انها الصفحة التي لم يعد الحوثي ذراع ايران الوحيد فيها، سيما وأن الجغرافيا العسكرية لمنصات مسيرات رأس تنورة كشفت عن انخراط الحشد الولائي بوصفه واجهة الحرس الثوري الايراني فيها.
صحيح أن الميليشيات الولائية في العراق قد التزمت الصمت الصاروخي خلال زيارة بابا الفاتيكان الى العراق، في لحظة كانت فيها ادارة بايدن تقيم وتدرس الرد المحتمل على مطلقي نحو 15 صاروخ على قاعدة عين الاسد التي تتمركز فيها القوات الاميركية. لكن الادارة البايدنية المهمومة بكيفية إعادة ايران الى طاولة التفاوض النووي، والتي تعرضت ضرباتها الجوية على مواقع حزب الله العراقي ردا على قصف مطار أربيل للكثير من التنمّر السياسي والاعلامي، حاولت بالامس استعراض بعض القوة من خلال تحليق قاذفة بي 52 القادرة على حمل واطلاق أسلحة نووية في سماء الخليج ردا على استهداف قاعدة عين الأسد. لكنه التحليق الاستعراضي الذي لم ينجح في حماية شركاء واشنطن وحلفائها في المنطقة كما تدعي عبر لجم المُسيرات المفخخة على رأس تنورة.
انها اللحظة الحرجة التي تمر بها المنطقة التي يزيد من اشتعال النيران فيها التجاذبات القائمة حول ملف ايران النووي وصواريخها البالستية وايضا أذرعها المتغولة على الدول التي تنتشر فيها. واذا كانت ايران تعتبر أن رفع العقوبات عنها اولا هو الشرط الضروري لاستئناف المفاوضات مع واشنطن، فإنها تعتبر أن منظوماتها الصاروخية كما أذرعتها خارج معادلات وبورصات التفاوض سيما وأنها المنظومات والأذرع التي نمت وترعرت واتخذت شرعية اضافية مكنتها من تمدد تغولها في المنطقة مع لحظة انطلاق رقصة التانغو النووية بين ايران الخامنئية واميركا الاوبامية.
وفق هذا السياق ايضا فإن استهداف ميناء رأس تنورة من خلال اعلانه هدفا محتملا لمُسيّرات قادمة يعني أن ايران تحاول تعبئة فراغ الوقت المستقطع بتوسيع مروحة المواجهة والسيطرة النارية حتى انتصاب طاولة التفاوض مع واشنطن لتحسين شروطها وتثبيت مواقع نفوذها الجديدة، الأمر الذي سيضع دول المنطقة عامة والسعودية خاصة أمام تحديات وتهديدات جديدة وجدية، سيّما في حال لم تكن نتائج الرقصة النووية التي ينتويها بايدن مع خامنئي على حساب أذرعة ايران ومنظومتها الصاروخية.
وتوازيا مع الكلام عن محاولات البعض تخريب العلاقات الأميركية السعودية، عبر الاستثمار السلبي على تقرير المخابرات الاميركية حول مقتل جمال خاشقجي، وتضخيم مفاعيل التقرير رغم هشاشة مضمونه واعتباره بمثابة الضلع الموازي للمُسيرات المفخخة التي تستهدف المملكة التي لم تكشف بعد عن حقيقة أوراقها ومواقع قوتها على امتداد المنطقة والعالم. سيما وأن السعودية تدرك جيدا بأنها باتت وجها لوجه في مواجهة مباشرة مع ايران وليس مع أذرعتها فقط. وهي المواجهة التي يرجح أن السعودية بدأت التعامل معها على هذا الاساس.