بقلم - خالد منتصر
الرواية ليست طبخة يعلّمها لك شيف محترف بمجرد كتابة المقادير، وجذوة الإبداع لا تشتعل بنار الفرن، وليس هناك مايكروويف لتسوية وإنضاج الرواية، لكن من الممكن أن تنقل تجربتك كروائى، محطاتك الفنية، طقوسك الكتابية، قراءاتك النقدية، كل هذه الأشياء من الممكن أن تكون إضاءات مفيدة لأى روائى، وإذا كانت تلك التجربة بقلم روائى مثل ماريو بارجاس يوسا فهنا ستكون الفائدة مضاعفة والإضاءة هى بمثابة كهرباء السد العالى أو المفاعل النووى!، فـ«بارجاس يوسا»، أو كما يكتبها الإسبان فارجاس يوسا، هو روائى صار أشهر من وطنه بيرو، حاصل على نوبل ٢٠١٠، رواياته بمذاق سحر أمريكا اللاتينية وواقعيتها الدموية وسياساتها العبثية، من أهم ما كتبه «يوسا» كتاب صغير سماه «رسائل إلى روائى شاب»، كتاب فى غاية الأهمية سواء لمن يكتب الرواية أو يقرأها، وسأعرض لكم بعض الاقتباسات من هذا الكتاب الرائع:
«ارتابت محاكم التفتيش الإسبانية بالروايات التخيلية، وأخضعتها لرقابة صارمة، بلغت حد حظرها فى كل المستعمرات اﻷمريكية طوال ثلاثمائة سنة، وكانت الذريعة هى أنه يمكن لهذه القصص، غير المعقولة، أن تشغل الهنود عن الرب، وهو الشاغل المهم الوحيد لمجتمع ثيوقراطى. ومثل محاكم التفتيش، أبدت جميع الحكومات أو اﻷنظمة التى تتطلع إلى التحكم بحياة المواطنين، ارتياباً مماثلاً تجاه القصص المتخيلة، وأخضعتها لتلك المراقبة، وذلك التدجين الذى يسمى الرقابة، ولم يكن هؤلاء وأولئك مخطئين؛ فاختلاق القصص المتخيلة هو، تحت مظهره المسالم، طريقة لممارسة الحرية، والاحتجاج ضد من يريدون إلغاءها، سواء أكانوا متدينين أو علمانيين. وهذا هو السبب الذى دفع جميع الديكتاتوريات إلى محاولة التحكم باﻷدب، فارضين عليه قميص (الرقابة) الجبرى».
«أظن أن من يدخل اﻷدب بحماسة من يعتنق ديناً، ويكون مستعداً ﻷن يكرس لهذا الميل وقته وطاقته وجهده، هو وحده من سيكون فى وضع يُمَكِّنه من أن يصير كاتباً حقاً، وأن يكتب عملاً يعيش بعده. أما ذلك الشىء اﻵخر الغامض الذى نسميه الموهبة، النبوغ، فلا يولد -على اﻷقل لدى الروائيين- بصورة مربكة وصاعقة (وإن كان ذلك ممكناً أحياناً لدى الشعراء والموسيقيين. والمثالان الكلاسيكيان على ذلك، هما رامبو وموزارت بالطبع). وإنما يظهر عبر سياق طويل، وسنوات من الانضباط والمثابرة. لا وجود لروائيين مبكرين، فجميع الروائيين الكبار والرائعين كانوا فى أول أمرهم (مخربشين) متمرنين، وراحت موهبتهم تتشكل استناداً إلى المثابرة والاقتناع»
«قوة اﻹقناع فى رواية تسعى إلى عكس ذلك بالضبط: تضييق المسافة الفاصلة بين الوهم والواقع، وحمل القارئ، بمحو الحدود بينهما، لأن يعيش تلك الكذبة، كما لو أنها الحقيقة اﻷكثر ثباتاً ورسوخاً، وكما لو أن ذلك الوهم هو الوصف اﻷشد تماسكاً ومتانة للواقع، هذه هى الخدعة الكبرى التى تقترفها الروايات العظيمة؛ إقناعنا بأن العالم هو كما ترويه هى، وكما لو أن التخيلات ليست ما هى عليه».
«ليس مهماً فى شىء أن يكون اﻷسلوب سليماً أو غير سليم؛ وإنما المهم هو أن يكون فعالاً ومناسباً لمهمته، وهى نفخ وهم حياة -بحقيقة- فى القصص التى يرويها، هناك كتّاب كتبوا بأسلوب فائق السلامة، وفق القواعد النحوية واﻷسلوبية السائدة فى عصرهم، مثلما هو ثربانتس، وستاندال، وديكنز، وجارسيا ماركيز.. وهناك آخرون، لا يقلون عنهم أهمية، خرقوا تلك القواعد، مقترفين كل أنواع العثرات النحوية، وكان أسلوبهم يغص باﻷخطاء، من وجهة النظر اﻷكاديمية. ولم يمنعهم ذلك من أن يكونوا روائيين جيدين».
«لا يمكن لأحد أن يعلِّم أحداً الإبداع. وأقصى ما يمكن تعليمه هو القراءة والكتابة. وما تبقى يُعلِّمه المرء لنفسه بنفسه، وهو يتعثر، ويسقط وينهض دون توقف».