بقلم - خالد منتصر
أن تكون مختلفاً فى مجتمع يقدس النسخ ويمجد الفوتوكوبى ويعشق التوائم الملتصقة ويسمى الركود استقراراً، ويعتبر اجترار ما حدث منذ قرنين من الثوابت، هنا قد حكمت على نفسك بالموت نفياً داخل شرنقتك، لأنك لو تكيفت فأنت قد فقدت ملامحك، وإن لم تتكيف فأنت قد فقدت حاضرك ومستقبلك وأطلقوا عليك صفة «المجنون»، رحل شفيع شلبى الذى لا يعرفه أبناء هذا الجيل، وداعاً يا من لم يتحملك مجتمع يخاصم التمرد، شفيع شلبى هو أفضل من قدم التحقيق التليفزيونى على خلفية ثقافية فى التليفزيونات العربية فى السبعينات، هل ذهابك يا شفيع بدراجة لمبنى ماسبيرو كان كافياً لحرمانك من لقب مذيع؟!! رحمك الله يا من مسك جنون البيرفيكشن الفنى فصرت معزولاً وحيداً محروماً من فردوس الوظيفة الميرى برغم حب الجمهور، يا من حلق بالحلم فاعتبره الموظفون من أرباع المواهب كابوساً مزعجاً لكسلهم وتيبسهم.
يقاس تقدم المجتمعات بمدى تحملها لجنون مبدعيها، إذا ضاق صدر مجتمع بمن هم على يساره، بمن هم خارج أسرابه، بمن يصفرون خارج القطيع ليؤنسوا وحدتهم، بمن لا يلتزمون بخط الطابور المرسوم مسبقاً، هذا المجتمع يكتب تاريخ وفاته ويرسم خريطة انقراضه، ويعد العدة لكى يتحول إلى محمية من قبيلة المطيعين المطوعين التى سرعان ما تذبل أوراق أشجارها وتجف ضروع أفكارها وتتصحر عقول أبنائها، لأنهم تجرأوا ذات يوم وطاردوا لحظة الخلق الفنى والإبداع المتجاوز.
حالة شفيع شلبى تفتح باب قضية مرونة المجتمع لتقبل الآخر المختلف، توسعة الكادر مهمة لأن المختلف الموهوب ليس مجرد نكشة شعر وارتداء كاجوال فى استوديوهات التليفزيون، شفيع شلبى كان موهوباً حقيقياً، كان من القلائل الذين التقطوا أن التليفزيون صورة، وأنه ليس إذاعة بشاشة ١٦ بوصة، لذلك عشق التحقيق التليفزيونى من الشارع، وقدم برنامجه العبقرى «الشارع المصرى» بهذه الروح، أتذكر جيداً حلقاته عن شارع المعز، وهى حلقات تاريخ وفن وثقافة، ورصد لحياة اجتماعية شديدة البساطة والتعقيد فى نفس الوقت، ولأنه مؤمن بثقافة الصورة فقد عشق السينما حتى الثمالة، وصار من مثقفى ونقاد الفن السابع المتميزين، بل وأخرج أفلاماً تسجيلية جيدة ومعبرة عن تلك الروح المتمردة، كان أول من قدم السينما المهمشة على شاشة التليفزيون، سينما فى علب، السينما التسجيلية التى كانت توضع شرائطها على الأرفف سد خانة أو مشاريع تخرج روتينية لمجرد أن يحمل أصحابها الشهادة والختم.
ما زلت أذكر حلقة استضاف فيها خريج معهد السينما الأول على دفعته عاطف بشاى، الذى كان فى العشرينات وقتها ليعرض مشروع تخرجه «لغة الآى آى»، واستضاف معه مؤلف القصة يوسف إدريس!! هكذا كان يفكر شفيع وينجز ويصنع برامجه، ولأنه مذيع مثقف وليس مذيعاً ببغاء، كان يقدر المثقفين حق قدرهم ويعرف أنهم كنز الأمة وبئر نفط الوطن الحقيقية التى لا تجف، لذلك ترك لنا مكتبة عامرة بلقاءات هى من قبيل الذاكرة الثقافية التى لا بد أن نحافظ عليها، ولا أعرف مصير تلك اللقاءات والشرائط، ستجد المعمارى حسن فتحى إلى جانب الفيلسوف زكى نجيب محمود إلى جانب كتيبة الفنانين صلاح جاهين، شفيع شلبى إنسان مصرى لم تشفع له موهبته فى بلاط معبد العادة والمألوف والبديهى والمفروض والواجب وما وجدنا عليه آباءنا