بقلم - عماد الدين حسين
قبل سنوات كنت أقرأ كثيرا أن المجتمع الإثيوبى شديد الهشاشة، وكنت أعتقد أن هذا التوصيف ينطلق من أصوات معادية لإثيوبيا، ثم جاءت الحرب الدائرة، منذ يوم 4 نوفمبر الجارى بين الحكومة المركزية من جهة، وجبهة تحرير تيجراى من جهة أخرى، لتؤكد أن الأمر أكبر من «الهشاشة»، وقد يصل إلى «شروخ وتصدعات» طولية وعرضية فى المجتمع الإثيوبى.
لا ينكر عاقل أن إثيوبيا أو «الحبشة» دولة لها حضارة عريقة، لكن مجتمعها متعددة الأعراق والقوميات، ولم يستطع أن يحقق تجربة انصهار كاملة حتى الآن، وكلما ظن قادته أنهم فى طريقهم لذلك، جاءتهم الضربة الكبرى من حيث لا يحتسبون.
من يتابع الشئون الإثيوبية بدقة سوف يكتشف أن ما حدث، كان متوقعا إلى حد كبير.
آبى أحمد رئيس الوزراء الإثيوبى، حينما تولى منصبه عام ٢٠١٨، أحدث ما يشبه الانقلاب فى بلاده. أقلية التيجراى، التى تشكل خمسة ملايين نسمة أى حوالى 6.7٪ فقط من الشعب الإثيوبى البالغ حوالى 108 ملايين نسمة. التيجراى كانت هى التى تحتكر المناصب العليا خصوصا فى أجهزة الأمن والحكومة، لأن قادتها هم الذين قادوا إسقاط الحكم الماركسى بزعامة منسجتو هيلا ماريام عام 1991. أما عرقية الأورمو ــ التى ينتمى إليها آبى أحمد ــ فتمثل الأغلبية بنسبة تصل إلى 35٪، تليها عرقية الأمهرة.
الجبهة التى أسقطت نظام هيلاماريام سميت بـ«الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية«»، وتكونت من أربع قوى أساسية، هى المنظمة الديمقراطية لشعوب أورومو، وحركة أمهرة الوطنية الديمقراطية، وحركة شعب جنوب إثيوبيا الديمقراطية، وجبهة تحرير شعب تيجراى.
أحمد قرر أن يشكل حزبا قوميا أسماه «الازدهار» فى محاولة لصهر كل العرقيات من جهة، وفى نفس الوقت القضاء على احتكار أقلية التيجراى للسيطرة على المناصب العليا. وبدأ بالفعل ينفذ مخططه بتأييد من غالبية القوميات المشكلة لإثيوبيا، لكن بمعارضة واضحة من التيجراى الذين رفضوا الانضمام للحزب، وبدأت الملاسنات والحروب الكلامية بينهم.
فى الصيف الماضى، كان يفترض أن تجرى انتخابات نيابية، لكن آبى أحمد قرر تأجيلها بحجة انتشار فيروس كورونا، وأصدر قرارا باستمرار المجالس النيابية كما هى. هذا القرار لم يعجب التيجراى التى أجرت انتخابات فى الإقليم فى سبتمبر الماضى، من دون موافقة الحكومة المركزية فى أديس أبابا.
إجراء هذه الانتخابات كان معناه عمليا أن التيجراى يسحبون اعترافهم بسلطة الحكومة فى العاصمة، خصوصا أن الدستور الإثيوبى يعطى الأقاليم المختلفة سلطات وصلاحيات كبيرة بما يجعلها أقرب إلى الفيدرالية، بل ويعطيها حق الانفصال عن الدولة.
الرسالة التى وصلت إلى قومية التيجراى وإقليمه، أن مشروع آبى أحمد مصمم خصيصا لتجريدهم مما يعتبروه حقوقا مكتسبة، على مدار العقود الماضية، وليس لإقامة حكم مركزى قوى.
أحمد بدأ منذ شهور فى تقليل الموارد المالية المخصصة للإقليم، كأداة للضغط عليه حتى لا يجروا الانتخابات، لكن كل ذلك لم يفلح، وبدأت المشاحنات والتهديدات، التى تحولت إلى حرب فعلية قبل حوالى أسبوعين، حينما قال آبى أحمد إن إقليم تيجراى، تجاوز كل الخطوط الحمراء. ثم بدأ الجيش الإثيوبى فى قصف العديد من مواقع إقليم تيجراى، الذى رد على هذه الهجمات، خصوصا أنه يمتلك أسلحة ومعدات ثقيلة بل إن كوادر عسكرية كبرى فى الجيش انشقت عليه وانحازوا إلى إقليمهم وقوميتهم. تزامن ذلك مع قيام أحمد بإقالة كل القيادات العسكرية الكبرى المحسوبة على التيجراى، أو التى تعارض حربه على الإقليم، ومنهم قادة الجيش والمخابرات ووزير الخارجية، ثم أسقط عضوية نواب التيجراى فى البرلمان القومى.
وهكذا بدأت الحرب وسمعنا وقرأنا عن جرائم حرب، خصوصا فى بلدة ماى كاديرا جنوب غرب منطقة تيجراى فى ليلة 9 نوفمبر»، وقصف بالصواريخ طال المحطة الكهرومائية فى إقليم التيجراى، الذى رد أيضا بهجمات صاروخية على إقليم أمهرة، المتحالف مع الأورومو، وكذلك على إريتريا التى يتهمها بأنها تساند الحكومة المركزية، علما بأن التيجراى كانوا فى مقدمة الذين خاضوا الحرب ضد إريتريا عام 1998.
النتيجة حتى الآن هى آلاف القتلى والجرحى، وفرار أكثر من ٢٠ ألفا من مواطنى الإقليم إلى السودان، ومناشدات دولية بوقف الحرب.
هناك أسئلة كثيرة بعد هذه التطورات أهمها: هل يتمكن آبى أحمد من حسم المعركة سريعا، أم تتطور الأمور إلى حرب أهلية مفتوحة، وما تأثير ذلك على منطقة القرن الإفريقى، والأهم على موضوع مفاوضات سد النهضة، وما الذى ينبغى على مصر أن تفعله فى هذا الوضع المستجد، وهل هو فى صالحنا أم لا؟!
على آبى أحمد أن يحكى ببعض التواضع وهو يفرد عضلاته على القاهرة فى الأيام الأخيرة كان أمرا متوقعا تماما، بل شبه محتوم.