بقلم - عماد الدين حسين
ما الذى يكشفه لنا الصراع العسكرى المسلح بين الجيش الإثيوبى وإقليم التيجراى الذى اندلع يوم ٤ نوفمبر الجارى؟
قبل الإجابة نذكر بأن هذا الصراع قد كشف زيف قوة الدولة الإثيوبية، وأنها تعانى من هشاشة تصل إلى الشروخ فى جدار كان يعتقد كثيرون أنه صلب.
هذا الصراع كشف أيضا أن فكرة الدولة بمعناها المعروف عالميا، بعيدة تماما عن التحقق ليس فى إثيوبيا فقط، ولكن فى غالبية القارة.
هناك جهود كبيرة فى هذا الشأن وهناك استقرار تم فى العقود الأخيرة، وهناك محاولات لبناء نماذج ديمقراطية فى مختلف بلدان القارة، لكن الملاحظة الجوهرية أن الهشاشة لاتزال سيدة الموقف. ويكفى النظر إلى نماذج مثل إفريقيا الوسطى والكونغو وجنوب السودان والصومال وجيبوتى بل والسودان وأخيرا إثيوبيا، للتدليل على أن القَبَلِيَّة والصراعات الأهلية والإثنية والدينية والفقر والفساد والاستبداد، لاتزال مؤثرة، وتلعب الدور الأساسى. هى كامنة تحت سطح رقيق جدا، لكنها تظهر لمجرد أى حادث بسيط أحيانا. ولدينا حروب أهلية فى بعض المناطق الإفريقية مستمرة منذ سنوات طويلة.
هذا الواقع يفترض أن يجعل بعض المتفائلين أكثر تواضعا، حينما يتحدثون عن المارد الإفريقى المنطلق والقادم بقوة من الخلف، فى حين أن لدينا عاملا ثانيا مهما وهو ضعف وهشاشة الاقتصاد، واستمرار استنزاف الثروات الوطنية لمصلحة الشركات العالمية الكبرى، التى صارت البديل الحديث للاستعمار بشكله التقليدى فى مرحلة ما قبل الاستقلال.
ينتج عن العامل السابق الفساد المتجدز فى غالبية البلدان الإفريقية، والبيانات والأرقام والإحصائيات عنه متضاربة، لكنه يستنزف معظم الثروات الوطنية. هذا العامل هو اللاعب الأكثر مهارة الذى يتم استخدامه كغطاء لمصلحة الشركات والدول الكبرى.
العوامل الثلاثة السابقة هى الأرضية الخصبة التى جعلت للإرهاب موطن قدم كبيرا فى إفريقيا، والأمثلة لذلك كثيرة خصوصا فى ليبيا والصومال ومالى وبعض مناطق الساحل والصحراء.
وكل ما سبق هو السبب الجوهرى الذى يجعل غالبية عمليات التنمية تذهب سدى، وتتعثر رغم حسن النية الذى يتوافر للعديد من القيادات فى البلدان الإفريقية.
قادة إثيوبيا نجحوا فى القضاء على حكم منجستو هيلاماريام فى أوائل التسعينيات، لكنهم أقاموا حكما استبداديا جديدا، تهيمن فيه أقلية التيجراى، رغم أن حجم تمثيلها لا يزيد على خمسة ملايين مواطن، بما لا يزيد على ٨٪ من تعداد المجتمع الإثيوبى.. وحينما فعلوا ذلك فإنهم كانوا يؤسسون لزرع الفتنة فى المجتمع الإثيوبى، وهو الأمر الذى يتم حصاده الآن.
القضية ليست من المصيب ومن المخطئ فى الصراع الأهلى الدائر فى إثيوبيا الآن، ولكن فى الأسس الهشة التى تقوم عليها العديد من المجتمعات الإفريقية. وهى الأسس التى كرسها الاستعمار الغربى الأبيض فى القارة الإفريقية، إضافة إلى عوامل أخرى مثل قلة الإمكانيات المادية والفنية والتكنولوجية، وضعف الخدمات الصحية والتعليمية، مما قاد إلى هذا الوضع المزرى فى العديد من مناطق القارة باستثناءات قليلة.
الوضع فى إثيوبيا يكشف لنا ما يحاول كثيرون إخفاءه، وهو أن القارة أمامها طريق طويل وشاق، لكى تبدأ فى السير على الطريق السليم نحو التنمية والتقدم والرخاء كما هو موجود فى البلدان المتقدمة.
العديد من البلدان الإفريقية تحتاج إلى الإيمان أولا بالتعددية وقبول الآخر. وتحتاج إلى الإيمان بفكرة الدولة والتخلى قليلا عن فكرة القبيلة، بشكلها المتعصب. القَبَلِيَّة مهمة فى افريقيا ولها أدوار إيجابية، لكن هيمنتها المطلقة تعرقل الانطلاق للأمام.
الصراع الإثيوبى الدائر حاليا يقول لنا بوضوح إن الاتحاد الإفريقى يحتاج إلى إعادة النظر فى الكثير من المسلمات والبديهيات، حتى تبدأ القارة علاجا حقيقيا للعديد من الأمراض السياسية والاجتماعية والدينية والفكرية المتوطنة، والتى لا تقل عن الأمراض المعروفة مثل الإيدز والملاريا وسائر أنواع الفيروسات.