بقلم - علي أبو الريش
الأوفياء أقمار تضيء حياتنا بالفرح، هم أوتاد خيمة ثقتنا، هم شراع سفينة سفرنا، هم جداول حقولنا، هم عناقيد بذخنا، هم در بحارنا، هم غافة صحرائنا، هم كل ذلك، لأن الوفاء في عالم يزدحم بالرض، والكظ، واحتقان الذات، ورجفة الأجفان حين تبدو في الأفق علاقة ود ما بين الفراشة والزهرة.
الأوفياء، هم هفهفة النسمات عند أعطاف النخيل، هم رفرفة الأجنحة ساعات الأصيل، هم في الحياة ملح، وسكر، هم في الوجود نغمة الطير على غصن الشجر، هم كل ذلك في المخيلة عندما تصبح المخيلة بيت القصيد، تصبح الشريان والوريد، تصبح منطقة وارفة الظلال عندما يكون في الحياة خل وفي وصديق ندي، ورفيق عمر، لا يهفو، ولا يصبو، وإنما في الحياة يكون أنملة تشير لك بأن القمر لا يضاء إلا بقشع الغيمة الرمادية، وأن الشمس لا يصفو وجهها إلا عندما يغسل المطر تراب الله، ويغدق الغادين بعذوبة السحابة.
الأوفياء كثر، ولكن علينا أن نستدل طريقهم، وعلينا أن نمكن قلوبنا من استدعاء مشاعرنا الطيبة نحوهم. لا ينبغي أن نكون
كـ «الحيوان الكسلان» ننام الوقت كله، ثم نصحو لبعض الوقت باحثين عن ربقة أو نبقة، فالحياة تحتاج منا أن نكون في الوفاء حقلاً، تجتمع الطيور في محبة أوراقنا وتأتلف التغاريد محيية أزدهارنا بالشفافية.
هكذا هو الوفاء ينمو، ويتطور، ويزهو ويزدهر ويثمر، ويفسح الطريق للنور كي يعبر، ويمر من دون عقبة أو عرقلة، ثم يطوي عباءته عند أريكة المحبة، ويختزل تاريخاً من الظنون، وفنون التوعك، وتعلو أغصانه، وتتفرع أفنانه، وتتوق النوق لأفيائه، وظلاله، والجياد الأصيلة تحط رحالها، حيث يكمن الوفاء، وتصفو عيون الطير، وترفل الغزلان بمشاعر الترف، والشرف الرفيع، وتتمايل أعطاف، وأسلاف، وتبدو المسافة ما بين القلب والقلب، كما هي المسافة ما بين الرمش والرمش، ساعتها لن نشعر بالغربة، ولن تنتابنا الوحشة، وتصبح الغابة بستان أزهار، والصحراء نجوداً، والبحار أنهاراً، والسماء قبعة عملاقة مرصعة بوميض النجوم، والأرض واحة تختال في الوعي جذلاً، وعدلاً، وسهلاً، ونهلاً، وبذلاً، والنهار يفترش شرشفة، ويهدهد ضمير العشاق، والليل يد سمراء تتلمس طريقها إلى العيون الناعسات، والحور العين.
الأوفياء وحدهم الذين يعرفون كيمياء العلاقة ما بين العيون، وبين الإخفاق، وهي تدق نواقيس الخطر فيما لو عصفت ريح في ثياب مغترب، أو نسفت تباريح في خيمة مستلب، أو خسفت تجاريح في عهن منتحب.
الأوفياء وحدهم الذين لا يغادرون موئل الشهامة، ولا يغيبون عن حبل الوصل، الأوفياء وحدهم الذين يعانقون السماء حين تشنف آذانهم نغمة تواصل، أو تغدق أفئدتهم نعمة الوصل.
الأوفياء عشاق بآفاق، لا يعرف مداها إلا من ذاق قيمة الوفاء، وعرف كيف يكون للحياة بريق من دون طاقة شمسية تزيح الظلام وتنعم على الأرض بفيض النور.