بقلم الدكتور ناصيف حتّي*
“حالةُ انفصامٍ شديدة” هي أفضل ما يُمكن أن يُوصَف به وضع لبنان الذي يعيش أزمةً ومأساة: مأساةٌ يعيشها المجتمع اللبناني بكافة مُكوّناته وأطيافه تتمثّل بالإنهيارِ المُجتمعي الحاصل الحامل كافة أنواعِ الإنفجارات، من الإقتصادي إلى الإجتماعي إلى السياسي والأمني، مع الكلفة الباهظة التي يدفع ثمنها المواطن اللبناني، وحالة البؤس والمهانة وانسداد الأفق التي تحكم حياته اليومية. وأزمةٌ تعكس صراعاً سياسياً لبنانياً يتداخل فيها العامل الداخلي بالعامل الخارجي، وهذا ليس بجديد في تاريخ لبنان: صراعٌ يحمل عنوان تشكيل حكومة إنقاذ أو “حكومة مُهمّة”، حسب المبادرة الفرنسية والتي صارت أحد عناوين المُبارزة الحاصلة. حكومةٌ من هذا النوع، الجميع مُتَّفقٌ على التسمية فقط لا غير، كما تدل كافة المواقف خاصة بأشكالٍ إيحائية ولو صارت مباشرة عند البعض أخيراً.
الصراعُ حول تشكيل الحكومة، التي قد تكون الحكومة الأخيرة في عهد الرئيس ميشال عون، باعتبار إنه من غير المُستبعَد عدم حصول انتخابات نيابية في العام المقبل كما يُرجّح البعض. يزيد ذلك الإحتمال من حدّة الصراع حول تركيبة الحكومة والمُحاصصة التي ستحكم تشكيلها مهما تمّ من جهود لتغطية هذا الأمر بأشكالٍ مختلفة لا يمكن ان تخفي الحقيقة، خصوصاً أمام السيناريوهات المُختلفة التي تُطرَح حول الإستحقاق الرئاسي المقبل. في السياق ذاته نشهد معركة داخلية حول الصلاحيات بين الرئاستين الأولى والثالثة (رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة)، ونشهد معركة إعادة فتح ملف “إتفاق الطائف“ ورغبة البعض بالعودة الى ما قبله، باعتبار إنه عَكَسَ توازناً داخليا/خارجياً تغيّر كلّياً الآن. وقد بدأت معركة الحديث عن إعادة فتح هذا الملف تحت عناوين مختلفة، فيما يتمسّك آخرون به كما هو. لقد صار المطلوب الإنطلاق من الإتفاق والبناء عليه لتطويره والذهاب نحو الدولة المدنية كخلاصٍ للبنان من “لعبة الكراسي الموسيقية“ بين الطوائف والمذاهب السياسية. كلٌّ من هذه الأخيرة يستفيد من لحظة توازن قوى داخلي-خارجي لمصلحته، وهو توازنٌ لا يدوم ولا يسمح ببناء وطن.
وعلى صعيدٍ آخر يأتي تأليف الحكومة في خضمِّ اشتداد المعركة في الإقليم الشرق أوسطي مع مجيء إدارة جو بايدن الى السلطة، ولعبة المفاوضات غير المباشرة وعلى الأرض بين واشنطن وحلفائها من جهة وطهران وحلفائها من جهة أخرى، للإمساك بأكبر عددٍ من أوراق اللعبة (ولبنان من ضمن هذه الأوراق). الإنتظار لحسم اللعبة لمصلحة طرفٍ على حساب طرفٍ آخر أو التفاهم حول تقاسم النفوذ في المنطقة يزيد من تعقيد الأمور: الموضوع أكبر من صراعٍ حول عدد الحقائب والفيتوات المُتبادَلة وحجم النفوذ فيما البلد ينهار. وللتذكير هناك اكثر من ٥٥ في المئة من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر، حسب منظمة “الأسكوا”، وأكثر من مليوني عاطل من العمل إلى جانب السقوط الهائل للعملة الوطنية أمام الدولار في بلد يعيش على الإستيراد. ولا بدّ في هذا السياق من التذكير ببعض الحقائق اللبنانية في ظل الخلاف القائم حول التدويل من عدمه. إن مجمل خلافاتنا كانت أو تغذّت على قضايا خارجية وتمّت لبننتها من دون أن يعني ذلك غياب خلافات داخلية، وإن مجمل التسويات حول هذه الخلافات الداخلية تمّت أساساً في الخارج. فالخلاف كما هو حاصل هو في حقيقة الأمر حول أي تدويل (أو أي دور خارجي) وليس حول مبدأ التدويل من عدمه.
في ظل الأزمة الوجودية التي تُهدد اليوم مصير الوطن، واحتمال حصول انهيارٍ كلّي، علينا قبل البحث في تجديد أو تغيير النظام، والإصلاح الشامل للنظام اللبناني للخروج من واقع نظام فيدرالية المذاهب السياسية: النظام الهشّ الذي يجذب دائماً كافة أشكال وأنواع التدخّلات أياً كانت العناوين والشعارات البرّاقة لهذه التدخلات، علينا العمل على بلورة مشروع الإصلاح الإقتصادي لوقف هذا الإنهيار.
إن المطلوب قبل تشكيل الحكومة، وقد مرّت أشهرٌ على ذلك، تنظيم طاولة مُستديرة، وقد طالبنا بهذا الأمر من قبل، وقيل حينذاك إنه مضيعة للوقت، وكم من الوقت ضاع. طاولةٌ تضمّ ممثلي القوى السياسية الرئيسة التي اجتمعت مع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وقالت أنها التزمت بالإصلاح مع ممثلين لقطاعاتٍ من المجتمع المدني، لتنطلق كما قد يرغب البعض من ورقة الإصلاح الفرنسية ويُبنى عليها البرنامج الاصلاحي الشامل والمطلوب بكافة عناصره للإنقاذ الوطني مع خريطة طريق واضحة للتنفيذ وجدول زمني، مع التزام كافة القوى المُشاركة بدعم ومواكبة وتسهيل تنفيذ هذا البرنامج الذى يحظى بإجماعٍ وطني ومواكبة دولية. يجب ان تُنَظَّم هذه الطاولة المستديرة في إطارٍ زمني مُحدَّد بشكلٍ مُسبَق ومحدود جداً، برعاية و ضمانة خارجية، لتكن فرنسية مع الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، لمواكبة تنفيذ الحكومة التي ستُشكّل لاحقاً أياً كان عدد أعضائها، لهذا البرنامج.
بعد إنقاذ لبنان من السقوط والانهيار، يُمكن البحث في تطوير النظام والبناء على “الطائف“. فالإستمرار في القتال حول مَن يكون القبطان الفعلي للمركب اللبناني، وحول شطّ الأمان كما يراه أو يتمنّاه كل طرف، فأمرٌ غير واقعي. لذا من دون برنامج ”الرحلة” الذي أشرنا إليه، سيغرق المركب بالجميع وهم يتقاتلون على القبطان وشاطىء الأمان. فهل مَن يسمع قبل فوات الأوان؟