بقلم : عبد الرحمن الراشد
ما يجري اليوم في بلاد ما بين النهرين، العراق وسوريا، امتداد لصراع عقود بين قطبين أساسيين إيران والمجموعة العربية. بدأ منذ قيام الثورة الإيرانية، وتهديد آية الله الخميني حينها أنظمة المنطقة بتغييرها بالقوة، تحت برنامج تصدير الثورة الإسلامية بالقوة، وما تلاها بنشوب الحرب بين العراق وإيران التي دامت ثماني سنوات. هدأت سنتين فقط ثم غزا رئيس العراق الكويت، فجلبت تدخلات دولية اختتمت بالغزو الأميركي للعراق وتسلل الجماعات المسلحة، مثل «القاعدة» ثم «داعش»، إلى العراق وسوريا، حيث الفراغ وضعف أنظمة الحكم. أراها حالة اضطراب مترابطة، ومستمرة منذ عام 1979 وحتى هذا اليوم، وهي قابلة للاستمرار طالما أن القوى الإقليمية عاجزة عن خلق حالة توازن، إما عسكرية أو سياسية عبر تفاهمات تنهي النزاع.
ولا بد أن نفهم المنطق والدوافع خلف رغبة النظام الإيراني في استمرارية الصراع في العراق والخليج وسوريا وفلسطين. فهو من ناحية يريد تحقيق رغباته التوسعية. يرى أن على حدوده الغربية دولا عربية أصغر حجما من إيران، وتمثل أكثر مناطق العالم ثراء بالنفط، كالعراق ودول الخليج. ويدرك أن الغرب لن يقبل بسهولة، بالتخلي عن مناطق البترول المهمة له كمصدر للطاقة، لهذا حاول نظام آية الله فرض هيمنته بوسائل مختلفة، ولم ينجح كثيرا إلا أخيًرا، ولا شك أن «داعش» خدمت إيران التي انضمت للتحالف الغربي والروسي تحت علم محاربة الإرهاب.
العراق أهم دولة لإيران لأنه بوابتها الغربية، ولن يتأتى لها السيطرة عليه إلا بالهيمنة شبه المباشرة. وقد لعبت إيران أدوارا مختلفة لإقناع الولايات المتحدة أن تكون شريكا مفيدا لها في العراق بالمساعدة على تثبيت الأمن خلال إدارة جورج دبليو بوش، حيث كانت الوحيدة، ربما باستثناء الأردن، التي تعاونت مع واشنطن آنذاك. وفي نفس الوقت كانت إيران تقوم بطرق مختلفة بزعزعة استقرار العراق. فقد تسببت إيران، مع حليفها النظام السوري، من خلال تمكين تنظيم القاعدة والمعارضة العراقية المسلحة من التسلل للعراق من سوريا لتخريب الوضع الأمني والسياسي، وإلحاق الخسائر بالقوات الأميركية. بوصول الرئيس باراك أوباما للرئاسة اختار الانسحاب الكامل من العراق، أكثر مما تعهد به بوش، فأصبح العراق مفتوحا للتدخل الإيراني بالتزامن مع عودة المجاميع المسلحة وتحديدا «داعش».
الآن، نظام إيران يوجد في العراق بحجة حمايته من «داعش»، متذرعا باحتلال التنظيم الإرهابي الموصل، وعددا من مدن محافظتي الأنبار وصلاح الدين، وأنه خطر على الدولة العراقية.
هل إيران طرف في الفوضى في العراق لتبقى فيه؟ بالتأكيد لها يد في ذلك، مثلا هي تدعم بعض الفرقاء الشيعة ضد بعضهم بعضا. وهي خلف تأسيس ميليشيا الحشد الشعبي كمنافس للجيش العراقي وإضعاف سلطة الحكومة المركزية. هل هي خلف «داعش» نفسه؟ رأيي أنها مدبر لكن من الصعب إثبات ذلك، إنما هي المستفيد الوحيد من تهديدات «داعش»، بفضله أعلنت دخول العراق، وإدارة المعارك، وتبجحت صراحة أنه لولا الحرس الثوري الإيراني لسقط العراق! و«داعش» تكرار لتنظيم القاعدة، إبان الاحتلال الأميركي، الذي نجح فقط في تخريب المشروع السياسي، وإعطاء الغلبة في بغداد لجماعات موالية لإيران.
ويمكن أن نفهم التصريح الأخير للسفير السعودي في بغداد، ثامر السبهان، في هذا الإطار عندما قال: «إن هناك من يحاول إحداث شرخ في علاقات السعودية بمختلف مكونات الشعب العراقي وأعراقه». يقصد بذلك إيران، ويعكس رسميا، لأول مرة، الصراع السعودي الإيراني في العراق. الصراع بين البلدين في العراق موجود لكن لدوافع مختلفة. فأطماع إيران هي الهيمنة على العراق كدولة وثروات. أما دوافع السعودية فهي حماية حدودها وصد توسع إيران. وقد تأخر الحضور السعودي في العراق عن موعده سنين، عندما تبنت الرياض رفضها لأي نوع من المشاركة في المشروع الأميركي الذي تم على مرحلتين، الغزو وبناء الدولة العراقية الجديدة، بخلاف طهران التي تعاونت وحصلت مقابل ذلك على نفوذ أثمر عن الوضع القائم اليوم.
مصلحة السعودية، تتطابق مع مصلحة العراقيين، في عراق مستقل عن الهيمنة الخارجية، يتحكم في ثرواته البترولية والمائية، وفي أراضيه وأجوائه. السعودية، وبقية دول الخليج، غنية وليست في حاجة للسيطرة على العراق، لكنها تريد بجوارها نظاما لا يماثل نظام صدام العدواني، ولا يكون دمية في يد الإيرانيين.
والدول الخليجية اليوم باتت تدرك، بشكل أكثر وضوحا، أن انتشار «داعش» و«القاعدة» في العراق وسوريا واليمن يستهدفها بالدرجة الأولى، وأن دولا مثل إيران تستفيد من هذه الجماعات المتطرفة في إضعاف قوى المنطقة والتدخل في شؤونها، وبناء تحالفات دولية تخدم أغراضها.