بقلم : عبد الرحمن الراشد
الرقة ليست غريبة على الحروب، فقد سبق للمغول أن احتلوها بعد بغداد ودمروها واستوطنوا فيها حتى تم طردهم منها بالقوة. وهي أخيًرا توشك على أن تتحرر من حكم تنظيم داعش الذي مارس من الفظائع ضد أهلها ما يفوق التصور. وما نشر ليس من دعاية الأعداء، بل مقاتلو التنظيم هم من كانوا يسوقون لصورتهم المرعبة، ويصورون الذبح الجماعي للأهالي، ورمي الأحياء من أعالي المباني، ويفاخرون باغتصاب الفتيات في المدارس، ويبثون أخبارهم بقتل الأجانب، وتوظيف السكان سخرة، رغما عنهم. الرقة صارت عاصمة الرعب في العالم، بعد أن تحولت المدينة إلى معسكر تجمع فيه إرهابيون من كل مكان، شكلوا جيًشا كبيًرا من جنسيات متعددة.
أما لماذا اختاروا الرقة عاصمة دون بقية البلدات السورية والعراقية التي وقعت تحت نفوذهم، فالسبب يكمن في النفط. المحافظة فيها آبار البترول السورية ومنشآته، اختارها الإرهابيون لتمويل مشروع دولتهم، وكانوا يبيعون النفط بلا تمييز، ومن خلال صفقاته تصالحوا مع نظام بشار الأسد في دمشق، وكان الزبون الأول. ومقابل شراء القوافل البترولية حصل النظام على ما هو أكثر من تمويل المحطات الكهرباء، فقد عمل «داعش» باعتباره جيشا للأسد، واستهدف بالقتال الجيش الحر وبقية فصائل المعارضة السورية، وكذلك دخل في معارك مع التنظيمات الكردية.
أما بالنسبة للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، فإن معركة الرقة أهم عمل عسكري وسياسي لها منذ خمس سنوات، أي منذ بداية الحرب الأهلية السورية. إدارة الرئيس باراك أوباما في حاجة إلى انتصار دعائي كبير، بعد تزايد الانتقادات لموقفها المهادن في سوريا، ولن تجد أفضل من الرقة، حيث سيكون تحريرها، لو تم، الإنجاز العسكري الوحيد الكبير منذ قتل زعيم القاعدة أسامة بن لادن في باكستان.
وتحرير الرقة من «داعش» مهم، لأنه أيضا سيدمر «الخلافة» وليس عاصمتها فقط. فهو عمل مضاد لفكرة العاصمة، التي توحي بوجود الدولة الإسلامية، والتي هي دولة افتراضية على ألواح الكومبيوتر، وليس لها وجود على أرض الواقع. فإن نجح التحالف في قتل وطرد آلاف من مقاتلي «داعش» من الرقة، قلعتهم الحصينة، فإن ذلك سيرسل رسالة قوية ضد الجماعات المتطرفة المساندة لـ«داعش» وجبهة النصرة، حيث ما فتئوا يستخدمون صور إدارتهم الرقة، لإقناع الرأي العام في المجتمعات الإسلامية بأنهم نجحوا في تأسيس دولة الخلافة الموعودة على أرض الميعاد. ولا شك أن صور الرقة، بوصفها عاصمة للتنظيم، أعطى دفعة كبيرة لبروباغندا المتطرفين في أوساط الشباب، الذين استمالتهم دعوات الجهاد، ووجدوا في فكرة
إقامة دولة الخلافة مشروًعا جذاًبا، بخلاف تنظيم القاعدة في أفغانستان والعراق، الذي ركز فقط على مفهوم التنظيم، وأرض الجهاد، ولم يتحدث عن عاصمة وخلافة، مع أنه استوطن في العاصمة الأفغانية، كابل، ولاحقا نجح في تحويل مدن، مثل الفلوجة العراقية، إلى مركز تجمع وانطلاق.
هذا من حيث المكاسب العسكرية والدعائية التي سيحققها التحالف الأميركي، في حال نجح هجومه على الرقة خلال الأيام المقبلة وتحريرها بالكامل، لكن ماذا بعد ذلك؟ الانتصار سيكون عملاً تلفزيونًيا مثيًرا، لكنه على الأرض محدود النتائج. وقد سبق ورأينا كيف تهرب التنظيمات الإرهابية، مثل الفئران، وتبني لنفسها مخابئ جديدة، ثم تستأنف معاركها. المتوقع أن «داعش» بدأ في تقليص وجوده في الرقة، كما فعل في الأنبار العراقية، ثم استولى على مدينة الموصل. والمتوقع أنه سيعاود نشاطاته ضد مدن سورية أخرى بديلة.
وباستثناء المكاسب الدعائية من معركة الرقة الوشيكة، فإن التحالف الدولي لن ينجح حتى في تقليل خطر «داعش»، لأن التنظيم يعيش على الفوضى في سوريا، ويستفيد من إجرام نظام الأسد ضد أغلبية السكان.
هناك ملايين السوريين المهجرين، وملايين منهم فقدوا أقاربهم، نتيجة جرائم نظام الأسد وإيران و«حزب الله» وروسيا التي لا تقل بشاعة عن أفعال تنظيم داعش. هناك نحو نصف مليونإنسان قتلوا في السنوات الماضية، كل ذلك نتيجة الإصرار على الإبقاء على شخص واحد في الحكم وهو الأسد. لن يجد «داعش»، ولا بقية التنظيمات الإرهابية، صعوبة في تجنيد آلاف من السوريين وغيرهم، إن قررت العودة إلى شعاراتها القديمة باستهداف نظام الأسد، التي تخلت عنها لاحقا بعد إعلان الخلافة، وكانت قد ركزت على فكرة الدولة اللاحدودية، وهدفها العالم كله. «داعش» سيعود إلى ضم السوريين، خصوصا بعد أن أغلقت الحدود الشمالية التي كانت ممًرا سهلاً للمتشددين القادمين من أنحاء العالم.
«داعش» سيخسر عاصمته، وسُيمنى بهزيمة دعائية في أنحاء العالم، وقد يفقد لاحًقا أيًضا مدينته الثانية، وهي الفلوجة في العراق خلال الأسابيع المقبلة، لكن كل هذه الانتصارات لن تقضي على الإرهاب المنتشر في أراضي دولة العراق والشام، بل هي مجرد مطاردات من مدينة إلى أخرى.