عبد الرحمن الراشد
هذا طبيب كل يشيد به، وسبق تكريمه من قبل الديوان الملكي السعودي بمنحه شهادة الاستحقاق لتبرعه بالدم عشر مرات. ويتحدث عَنْه زملاؤه في المهنة بتقدير واحترام. وتقول الإدارة الطبية الرسمية إنه الإخصائي الوحيد في جراحة الوجه والفكين في منطقة عمله، في تبوك شمال غربي المملكة التي يبلغ عدد سكانها ثمانمائة ألف نسمة، وتشهد له بأنه «يؤدي عمله على أكمل وجه، ويقوم بالمناوبات الليلية المستمرة لتغطية احتياج العمل، والحضور في الحالات الطارئة في أي وقت».
هذه السيرة الجيدة هُشمت، لأن شابا قرر أن يصنع قصة يُسلي بها أصدقاءه، وكان ضحيته الطبيب! قام بتصويره بجهاز هاتفه وهو يتناول عشاءه في المطعم مع عائلته، وأضاف عليها فيديو مزوّر حتى يبدو كما لو أنه في المطعم ليس زبونا، بل عاملا يبيع الشاورما. ولأن الفيديوهات والصور في ذهن كثيرين أدلة دامغة لا تقبل الجدل، استقبلتها المواقع الإخبارية على أنها حقيقة ثابتة، طبيب في النهار وبائع شاورما في المساء! ولأن المنشور والمصور يعتبر مرجعا عند بعض الإعلاميين فقد وصلت الحكاية إلى محطات التلفزيون.
القصة المزورة كان يمكن أن تبقى نكتة، مثل ملايين الحكايات الخفيفة التي تفيض بها هواتفنا ومعظمها مزور أو مجتزأ، لولا أن النكتة صارت قضية في ملفات المحكمة الجزائية. وسبقت الدعوى تحقيقات رسمية على اعتبار أن الطبيب لا يجوز له أن يعمل بوظيفة أخرى، أيضا نستطيع أن نتخيل الإيذاء والسخرية والاستنكار الذي واجهه الطبيب الضحية في مجتمعه.
النهاية سعيدة لأن العدالة تدخلت، بعد أن كانت هذه القضايا في السابق تعتبر ملهاة ومضيعة لوقت القضاء. وحكمت المحكمة بسجن الشاب المزوّر شهرا، وجلده مائة جلدة، وإلزامه بنشر اعتذار للطبيب في إحدى الصحف.
جرائم المعلوماتية تكبر مع الوقت وصارت همّا كبيرا، عمليات التلفيق واسعة مثلما تقول إحدى المذيعات إنه تم انتحال شخصيتها على تسجيل إذاعي يحرض على الفتنة المذهبية في الكويت، ولا ندري الحقيقة ولا يمكن أن نعرفها إلا بعد التحقيق والتدقيق.
العقوبة مدخل مهم لتحصين الناس من الكذب والإهانات المنتشرة، مع سقوط حرمة وخصوصيات الناس، بسبب انتشار وسائل التصوير وشيوع إرسالها وانتشارها مما يجعلها جريمة وليست مجرد مزاح يمكن السكوت عنه.
معظم ما كان يرفع للمحاكم، ويقبل النظر فيه، قضايا نقاشية وتعديات فكرية على رسائل الجوال أو المدونات، أما التزوير والسخرية، بمعلومات مكذوبة، فلم تكن تحظى كثيرا بانتباه النظام العدلي. أتصور أن السبب في أن هناك كمّا كبيرا منها بما يحتاج إلى مضاعفة قدرات أجهزة التحقيق وإمكانيات السلك القضائي. أتوقع أن العقوبات الرادعة ستكون بذاتها كفيلة للقضاء على هذه الظاهرة المؤذية والحد من التعدي على الغير بأجهزة الهواتف.
وفي العام الماضي بلغت قضايا التشهير نحو 350 قضية، ويلوم القاضي السابق يوسف السليم مواقع التواصل الاجتماعي بأنها السبب، وقد «أدت هذه المواقع إلى حدوث استهانة كبيرة جدًا بالسب والقذف والشتم، وتتبع العورات وكشف الخصوصيات».
ولا أتفق على الخلط بين محاسبة الإيحاء الشخصي بالسب أو التشهير ونحوه، وبين التعدي الفكري، لأن الأولى جريمة واضحة المعالم، أما الثانية فمسائل جدلية، ولهذا اخترعت وسائل التواصل للتفكير والنقاش والجدل. الجرائم المعلوماتية، وهي كلمة واسعة، يقصد بها ما ينشر على مواقع التواصل، وغيرها من الوسائل المماثلة، قد تكون الدعاوى بسبب التحامل، أو الكذب، أو التشهير بأعمال وقعت فعلا إلا أنها شخصية لا يحق للمجتمع أن يطّلع عليها وتخص الفرد، وقد تكون قضايا فكرية طائفية أو سياسية ونحوه. ومن دون تصنيفها فإن الْقَضَاء سيغرق في بحر من الاتهامات وسينشغل عن القضايا الأهم.