عبد الباري عطوان
سيَدخُل شهر رمضان المبارك الحاليّ التّاريخ ليس لأنّه الشّهر الذي جرى خلاله إغلاق الحرمين الشريفين، وجميع المساجد في الوطن العربيّ، وتعطيل مناسك العمرة وربّما فريضة الحج، بسبب وباء الكورونا، وإنّما أيضًا لأنّه شَهِدَ أكبر حملةً تطبيعيّةً تقودها وسائل إعلام سَعوديّة، وبإيعازٍ من السّلطة، وتنسيق مع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي أشادت بها، وشنّ حملة تشويه مُكثَّفة ضِد أبناء الشّعب الفِلسطينيّ الذين يُقاومون هذا الاحتلال، ويُدافِعون عن المقدّسات العربيّة والإسلاميّة، ويُقَدِّمون آلاف الشّهداء والجرحى والأسرى.
بعد مسلسل “أم هارون” الذي يُدشِّن حملة التّطبيع هذه، ويتحدّث عن اليهود في الجزيرة العربيّة، دون أيّ إشارة للحركة الصهيونيّة ودورها في اغتِصاب فِلسطين، تَبُث القنوات التلفزيونيّة المملوكة سَعوديًّا مُسَلسلًا “كوميديًّا” آخَر تحت عُنوان “مخرج7” يتحدّث في حلقته الثانية عن وجود قِطاع شعبي سعودي يُحَمِّل الفِلسطينيين مسؤوليّة تردِّي أحوال العرب، ويُؤيِّد التّطبيع، وإقامة علاقات اقتصاديّة وتجاريّة مع الإسرائيليين، ولا نَعرِف ما هي “الخطايا” الأُخرى التي ستكون في ثنايا الحلقات المُقبِلة في هذا المِضمار، فأوّل القصيدةِ كُفر.
***
الأمر المُؤكَّد أنّ هُناك أصابع وعُقول إسرائيليّة تَقِف وراء هذا التوجّه وتدعمه، أيّ استِخدام الفن، والامبراطوريّة الإعلاميّة السعوديّة الجبّارة، لفك ارتباط أرض الحرمين الشريفين، ليس بالقضيّة الفِلسطينيّة، وإنّما أيضًا بالأمّتين العربيّة والإسلاميّة، وتدمير هيبة المملكة ومكانتها وصُورتها فيهما، وتشجيع التيّار المُتنامي الذي يُطالب بـ”تدويل الحرمين الشريفين”.
هذه الهبّة القويّة الشعبيّة العربيّة والإسلاميّة المُضادّة التي تَعكِسها حاليًّا مُعظَم وسائل التّواصل الاجتماعي تُؤكِّد أنّ القضيّة العربيّة المركزيّة (فِلسطين) هي الرّابح الأكبر من هذه الحملة، لا التّعاطف والتّأييد العربيّ يترسَّخ معها، بينما تخرج الجِهات السعوديّة الرسميّة التي تَقِف خلفها هي الخاسِر الأكبر على المدّيين القريب والبعيد داخليًّا وعربيًّا وإسلاميًّا.
نوَد أن نُوجِّه عدّة أسئلة للجِهات الرسميّة السعوديّة التي تَقِف خلف هذه الحرب الشّرسة ضِد الشّعب الفِلسطيني وتتّهمه بالمسؤوليّة عن تدهور أحوال العرب:
الأوّل: هل الفِلسطينيّون هُم الذين يقِفُون خلف الحرب الحاليّة الدمويّة المستمرّة مُنذ 5 سنوات في اليمن، وأرسلوا طائراتهم الأمريكيّة الصّنع لقصف الأفراح ومجالس العزاء والمُستشفيات والمدارس وقتل وجرح مِئات الآلاف من اليمنيين الأبرياء، وتجويع أكثر من عشرين مِليونًا منهم، واستِنزاف أكثر من 200 مِليار دولار تكاليف أوّليّة لهذه الحرب مِن الخزينة السعوديّة.
الثّاني: هل الفِلسطينيّون هُم الذي قدّموا 450 مليار دولار دفعةً واحدةً للرئيس دونالد ترامب أثناء زيارته للرياض، وفوقَها 100 مِليون هديّة لابنته إيفانكا وجمعيّتها الخيريّة، ليرد الجميل بضم القدس وهضبة الجولان، ونقل السّفارة الأمريكيّة إلى العاصمة المقدّسة، وإطلاق صفقة القرن لتصفية القضيّة الفِلسطينيّة، ويستعدّ حاليًّا لتأييد ضم الضفّة الغربيّة وغور الأردن؟
الثّالث: هل يُتابع المسؤولون السعوديّون الذين يَقِفون خلف هذه الحملة ضِد الشّعب الفِلسطيني ويُبرِّرونها ببعض شتائم فِلسطينيّة “فرديّة”، هل يُتابعون حجم الشّتائم واتّهامات التّخوين المُوجَّهة لهم، على وسائل التواصل الاجتماعي وبكثافةٍ غير مسبوقة، ومن مُختلف الشّعوب العربيّة، وصورة حُكومة المملكة المُتدنّية في أذهان هؤلاء، وجميع انتِقاداتهم ومَواقِفهم حقيقيّة وليسُوا من جُيوشٍ إلكترونيّةٍ مدفوعة الثّمن؟
الرابع: هل الفِلسطينيّون هُم الذين أشعلوا فتيل حرب النّفط مرَّتين الأُولى عام 2014، والثّانية قبل شهر، عندما أغرقوا أسواق النّفط بملايين البراميل الزّائدة ممّا أدّى إلى انخِفاض الأسعار في الأولى من 110 دولارات إلى 30 دولارًا قبل أن ترتفع إلى خمسين، وفي الثّانية إلى 37 دولارًا تحت الصّفر، ممّا أدّى إلى انهِيار منظّمة أوبك، وإلحاق الضّرر الكبير بالمُنتجين داخِلها وخارِجها، ومُعظمها دول عربيّة وإسلاميّة مِثل الكويت والإمارات وإندونيسيا ونيجيريا والجزائر وليبيا وقطر وسلطنة عُمان والبحرين، إلى جانب السعوديّة نفسها، والقائِمة تطَول.
ما لا يعرفه الذين أعماهم النّزق، والكُره للأُمّتين العربيّة والإسلاميّة، والاندِفاع في عشقهم لدولة الاحتِلال الإسرائيليّ والتّطبيع معها، ويَقِفون خلف مسلسل “أم هارون” وغيرها، أنّهم يُقَدِّمون أجمل هديّة للمشروع الصهيوني بتشريعهم لشِعاره وطُموحاته بأنّ أرض إسرائيل من النّيل إلى الفرات، بتشريعِ الوجود اليهوديّ في أرض الجزيرة العربيّة “المجّاني” ودون أيّ إشارة واضحة لفِلسطين ومقدّساتها واحتِلالها وتشريد شعبها المُقاتل، سيُؤدِّي حتمًا إلى تشريع المطالب اليهوديّة بالعودة إلى خيبر والمدينة ومكّة المكرّمة، والمُطالبة بحقّهم بعوائد النّفط وبأثَرٍ رجعيّ.
فإذا كان هؤلاء يعتقدون أنّ إسرائيل يُمكن أن تُوفِّر لهم الحِماية فهم مُخطِئون، لأنّ إسرائيل لم تَعُد قادرةً على حماية نفسها، ولم تكسَب أيّ من حُروبها مُنذ عام 1967، ولا تستطيع دبّاباتها التقدّم شِبرًا واحِدًا في قِطاع غزّة، خوفًا ورعبًا من ضرب تل أبيب، وشاهدنا حالة الرّعب التي سادتها من جرّاء وجود ثلاث ثغَرات في السّياج الأمنيّ الشّائك على حُدودها مع لبنان، وربّما تُفيد الإشارة هُنا إلى مِئات الآلاف من الصّواريخ المُتَقدِّمة والدّقيقة التي باتت في يَد رِجال المُقاومة في لبنان وقِطاع غزّة، واليمن والعِراق وسورية.
الرّد المُشرِّف على هذه الهجمة التطبيعيّة السعوديّة ومُسلسلاتها جاء بالصّدفة الوطنيّة المحضَة، وعبر مُسلسلين جسّدا روح المُقاومة وأكّدا على عدالة القضيّة الفِلسطينيّة:
الأوّل: مسلسل “النهاية” المِصري الذي يُبَث حاليًّا عبر أحد القنوات المِصريّة الرسميّة، بمُناسبة شهر رمضان، وتحدّث عن تحرير القدس واستِعادة فِلسطين كاملةً، وهُروب الإسرائيليين إلى بلادهم الأصليّة التي جاءوا مِنها.
الثّاني: المُسلسل الذي تُقدِّمه قناة “الميادين” طِوال الشّهر الفضيل تحت عُنوان “حارس القدس” الذي يروي سيرة المطران كبوتشي، الذي استَخدم حصانته الدينيّة المسيحيّة في الانحِياز إلى صُفوف المُقاومة، والوقوف في خَندَقِها، وتهريب الأسلحة إليها في سيّارته، ويستحقّ لقب “شهيد القدس”.
***
الشعب العربيّ الخليجيّ بكُل جنسيّاته وطوائفه وأعراقه، وعلى رأسهم شعب أرض الحرمين الشريفين، مُستَعِدٌّ للتّضحية بدِمائه من أجل قضايا الأمّتين العربيّة والإسلاميّة، وعلى رأسها قضيّة فِلسطين، ولم ولن يبخَل مُطلقًا في تقديم مِئات الشّهداء لنُصرتها، ولا نُبالغ مُطلقًا إذا قُلنا أنّ هؤلاء الذين يَقِفون خلف هذه الهجمة التّطبيعيّة المُنحَرِفَة لا يُمثِّلونه، أو يتحدَّثون باسمِه.
ما لا يُدركه هؤلاء أنّهم عندما بَدأوا خطواتهم التطبيعيّة نحو دولة الاحتِلال، وارتَموا في أحضان ترامب وصِهره جاريد كوشنر، كان سِعر بِرميل النّفط 110 دولارات، وصناديقهم السياديّة تطفَح بأكثر من ترليونيّ دولار، الآن لماذا يُريدهم ترامب، أو يُدافع عنهم عندما اقتَرب سِعر البرميل من الصّفر؟ وتبخّرت الاحتِياطات، والشّيء نفسه يَنطَبِق على نِتنياهو بشكلٍ أو بآخر، إن لم يَكُن أخطر.
مسلسل “أم هارون” وتوأمه “المخرج 7” لن يُؤثِّر سلبًا على شرعيّة القضيّة الفِلسطينيّة وعدالتها، والتِفاف العرب حولها، بل على الذين يقِفُون خلفهما، خاصّةً أمام شُعوبهم التي لم تقبل بهذه الإهانات، وستتحرّك لوقْفِها في المُستقبل القريب، والقضيّة الفِلسطينيّة قضيّة أمّة وعقيدة وعدالة.. وأعصى من أن يُؤثِّر عليها مُسلسلٌ من هُنا وآخَر من هُناك تمدَحه السّلطات الإسرائيليّة… والأيّام بيننا.