عبد الباري عطوان
“المغترب” المُعلّق الأشهر والأكثر مُواظبةً على التّعليق على هذه الصّحيفة “رأي اليوم” كتب تعليقًا ظريفًا بمُناسبة “الفتوى” التي ورَدت على لسان “الداعية” الإماراتي وسيم يوسف في برنامجه على شاشة قناة “أبو ظبي” الرسميّة، قال فيها “كُنّا مُتعاطفين مع الجيش الحُر، وجبهة النصرة، بسبب قناة “الجزيرة” وإعلام قطر، وكُنّا نَشتُم الرئيس بشار الأسد والجيش العربي السوري، الآن لو كُنت في سورية لحمَلت السلاح وقاتَلت معهم ضِد الجماعات الإرهابيّة التي دمّرت سورية باسم الدين، ما جرى فِتنة وكُنّا نُسمّيها جِهادًا”.
يقول تعليق “المغترب” وهو اسمٌ “مُستعارٌ” لمَسؤولٍ أردنيّ سابق كبير جدًّا، بحُكم كنز المعلومات التي يملكها، ونحن ننقُل عنه حرفيًّا “سأروي لكُم قصّة الباذنجان، يُقال إنّ الأمير فخر الدين الشهابي قال لوزيرٍ على مائدته أنا لا أُحِب الباذنجان.. فقال الوزير أنت مُحِق أيّها الأمير فالباذنجان قشرته سوداء كالحة وشكله مُحيّرٌ مُقزّز، وبه مرارةٌ في طعمه”، بعد فترة غيّر الأمير الطبّاخ الذي أعدّ صُحونًا طيّبةً من الباذنجان فأحبّها الأمير فقال وزيره مُهلِّلًا: “الباذنجان يا سمو الأمير زينة الموائد مَشويًّا، ومقليًّا، ومَهروسًا، يُقوّي البصر، ويحمِي العِظام”، وبعد الغداء قال أحد من حضر المُناسبتين للوزير “يا مُنافق هل يُعقَل أن تقول رأيًا بالباذنجان ثمّ تقول عكسه لاحقًا؟”، فأجاب الوزير “طبيعي أن أفعل ذلك فأنا وزيرٌ عند الأمير ولست وزيرًا عند الباذنجان”.
عُدت إلى مُعظم “فيديوهات” الداعية وسيم يوسف، خاصّةً في بداية الأزَمة السوريّة، وكان خِطابه لا يختلف كثيرًا عن خِطاب العُلماء الذين أصدروا فتاوى “الجِهاد” في سورية، والتّحريض على تدميرها، و”خُروج” أهلها ضِد النّظام الحاكم فيها، واستِخدام توصيفات وشتائم يعفّ اللّسان عن ذِكرها، ناهيك كتابتها، الأمر الذي يدفعنا إلى التّساؤل عمّا إذا كان هذا الانقِلاب في موقفِ هذا الداعية هو نتيجة صحوة ذاتيّة، أم مُوحىً به من السّلطات الإماراتيّة؟ ونُرجّح الأخيرة، خاصّةً بالنّظر إلى العِبارة الشّهيرة التي قالها المُستشار عبد الحكيم إبراهيم النعيمي، القائِم بأعمال سِفارة دولة الإمارات في دِمشق مطلَع هذا الشّهر أثناء الحفل الذي أُقيم بمُناسبة العيد الوطني “الأمل كبيرٌ بعَودة الأمن والأمان إلى رُبوع سورية في ظِل القِيادة الحميدة لبشار الأسد”، فهذا توجّه دولة وليس توبة إمام وداعية مُستَقل.
***
صحيح أنّ قناة “الجزيرة” كانت رأس الحِربة في عمليّة التّحريض لدمار سورية ودعم الجَماعات المُتطرّفة فيها، وخاصّةً جبهة النصرة، وهذا مُوثّقٌ، ولكنّ هكذا كان حال قناة “العربيّة” السعوديّة، و”أبو ظبي” الإماراتيّة الرسميّة، ومُعظم، إن لم يَكُن، كُل القنوات الخليجيّة الأُخرى، وربّما يُمثّل هذا الانقِلاب في موقف “الداعية” المذكور، الذي يصفه البعض بالشّجاعة، مُقدّمةً لتراجع مراجع إسلاميّة (500 عالم سنّي) اجتمعت في القاهرة قبل الإطاحة بحُكم الرئيس المِصري السّابق محمد مرسي بأيّام، وأصدرت فتوى إعلان الجِهاد في سورية، وقبلها في ليبيا، وهدر دِماء زعيميّ البَلدين، وإغلاق السّفارة السوريّة، وليس الإسرائيليّة في القاهرة، بقِيادة الشيخ يوسف القرضاوي.
هذا الاعتِذار المُبطّن من قِبَل دولة الإمارات، أو أيّ من الدول الأُخرى إذا حذوت حذوها وهي التي ضخّت مِئات المِليارات لدعم أعمال القتل والتّدمير في سورية، ونحن نتحدّث هُنا دون مُواربة عن السعوديّة وقطر أيضًا، لا يكفي، لأنّ هذا الدّعم أدّى إلى مقتل نِصف مِليون سوري من جانبيّ هذه الحرب على مَدى السّنوات الثّماني الماضِية.
هذه الأخطاء المُكلِفة جِدًّا بدأت بمُشاركة دول خليجيّة وعربيّة أُخرى (مِصر حسني مبارك) في المشروع الأمريكيّ لتدمير العِراق، ودعم الحرب التي شنّها حِلف “النّاتو” لتدمير ليبيا، وتوظيف الجامعة العربيّة لتشريع عمليّات الدّمار والحُروب هذه، فهذه الأخطاء ليست إملائيّة أو نحويّة يُمكِن تصحيحها والاعتِذار عنها بسُهولةٍ، وإنّما أخطاء أدّت إلى كوارث وتدمير دول، وقتل وتشريد شُعوب، وإهدار ثرَوات أُمّة.
الآن يرتكبون خطأً أكبر في اليمن، فهل يُمكن أن يخرجوا علينا، وبعد خمس سنوات من القصف والدّمار، ليقولوا أنّنا أخطأنا، وعلينا فتح صفحة جديدة، وعفَا الله عمّا سلَف؟ ماذا عن مِئة ألف إنسان قُتِلوا؟ وماذا عن 350 ألف أُصيبوا، وأجيال جديدة تحتاج عِلاج نفسيّ لمَحو آثارها؟
ولعلّ الخطيئة الأكبر التي تستعد دول خليجيّة للغلو في ارتِكابها هي التّطبيع المُتسارع ودون حياء مع دولة الاحتِلال الإسرائيلي، وتطفح الصّحف العِبريّة هذه الأيّام بمقالات وتقارير إخباريّة تُؤكّد أنّ لحظة فتح سِفارات إسرائيليّة في عواصم هذه الدّول باتَت وشيكةً جدًّا، وربّما في بِداية العام الجديد.
نحنُ مع إجراء مُراجعات، تُؤدّي إلى الاعتِراف بالذّنب، ومن ثمّ الاعتذار، والتّعويض الماديّ عن الأضرار، وهذا الحَد الأدنى، فلا تُطالب برطل اللّحم مِثل شايلوك في مسرحيّة شكسبير الشّهيرة، ونُومِن بأنّ “خير الخطّائين التوّابون”، ولكنّنا نعتقد أنّ من شُروط التّوبة النّصوح عدم مُواصلة الأخطاء نفسها وارتِكاب ما هو أبشع منها.
لنشرح أكثر ونقول إنّه بالإضافة إلى التّطبيع هُناك استِعدادات لحربٍ ضَروس سيكون الشّعب اللّيبي، أو ما تبقّى منه ضحيّة لها، فليتفضّل وعّاظ السّلاطين الذين أعلنوا الجِهاد في ليبيا وحلّلوا دِماء الطّاغية، أن يُفَسِّروا لنا أسباب هذه الحرب، ولماذا الزّج بآلاف المُتطوّعين من الشبّان المُسلمين للانخِراط فيها في صُفوف المُعَسكَرين المُتقاتِلَين؟ الطّاغية جرى قتله، والتّمثيل بجُثّته، بطريقةٍ مُقزّزة يندى لها جبين الكفّار قبل المُسلمين، باستِثناء هؤلاء العُلماء وأنصارهم، والطّرفان المُتقاتِلان للتّذكير كانوا يقِفون في خندقٍ واحدٍ ويُقاتِلون تحت أجنحة طائِرات حِلف “النّاتو” لتحويل ليبيا إلى دولةٍ فاشلةٍ تُسيطِر عليها الميليشيات وتُشرّد نِصف شعبها، وتنهب مِليارات أرصِدتها، أرجوكم فسّروا لنا ما حدَث ويَحدُث، ألا يستحقّ الشّعب اللّيبي اعتِذارًا أيضًا؟
***
“الداعية” وسيم يوسف لا يختلف عن كُل وعّاظ السّلاطين الآخرين كِبارًا كانوا أو صِغارًا، فمُعظمهم إن لم يكُن كلهم، كانوا أدوات لحُكومات انخَرطت في مشروعٍ أمريكيّ لتدمير هذه الأمّة وقتل شبابها، وتبديد ثرواتها، وهؤلاء مُطالبون بأن يخرجوا من جُحورهم، ويعتذروا ويُعلِنوا التّوبة ويُطالبون الصّفح من الأُمّتين العربيّة والإسلاميّة لعلّهما تقبلانها.
القنوات الفضائيّة مِثل “الجزيرة” و”العربيّة” وغيرها لم تُضلّل هؤلاء، بل هُم كانوا مُستعدّين له، استخدمتهم كأدوات وبطلبٍ من حكّامٍ يأتمرون بأمرِ غيرهم، وتحت شِعارات زائفة مِثل الديمقراطيّة وحُقوق الانسان، كانوا آخِر من يُؤمنون بها أو يُطبّقونها، فلم نسمع أنّ أيّ من أبناء هؤلاء الوعّاظ قد عَمِل بفتاوى الجِهاد التي يُصدِرها آباؤهم، وقاتل على الجبَهات مِثل الشبّان الآخَرين الذين تمّ تحريضهم وخِداعهم.
كلمة الحق يجب أن تُقال، ولا خير فينا إن لم نَقُلها، ولا خير فيكم إن لم تسمعوها، ولن تسمعوها.. وقولوا ما شِئتُم.