هدى الحسيني
كانت الساعة الثانية وإحدى وأربعين دقيقة بعد منتصف ليل الأربعاء – الخميس الماضي بتوقيت لندن، عندما ظهر على هاaتفي خبر مستعجل: مقتل قاسم سليماني! الرجل الذي كنا نعتقد أنه لا يُمس.
يستخدم الإيرانيون كلمة «الصبر» عندما يتعلق الأمر بردات فعلهم. في بعض الأحيان يشير هذا إلى عدم القدرة على التنفيذ، وفي أحيان أخرى إلى أنهم سيأخذون الوقت الكافي لاختيار المكان والزمان المناسبين للتنفيذ.
قال اللواء إسماعيل قاآني الذي عُين فوراً بعد مقتل سليماني: «كونوا صبورين وانتظروا قليلاً».
وقال اللواء حسين دهقان وزير الدفاع لـ«سي إن إن»، إن بلاده ليست مستعجلة، وستختار أهدافها بعناية «سيكون رد فعلنا حكيماً ومدروساً جيداً، وفي الوقت المناسب، مع تأثير كبير». (فجر الأربعاء قصفت إيران قاعدتين عسكريتين أميركيتين في العراق).
القول السائد المتداول: سقطت الأقنعة؛ لكن بعد مقتل سليماني قد يصبح القول: سقطت الخيم عن رؤوس كثيرة. ثم كثر الموالون ووكلاء إيران في الظهور إعلامياً ليهددوا ويحددوا ردود الفعل الإيرانية، فبدوا كأنهم يشيرون إلى حالة الارتباك التي أصابت القيادة الإيرانية، فتركت لوكلائها وظيفة تهديد العالم بالويل، وحتى احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة!
هناك سؤال بسيط، وربما غبي، نود أن نطرحه باسم الثكالى والأيتام والأرامل، فقد مات من جراء خطط سليماني الآلاف من المدنيين في كل بقعة تمدد فيها، ولم يندد أحد بمقتلهم، ويعرِّف قادة «المقاومة» عن أنفسهم بأنهم «مشاريع شهادة»، فإذا كانوا صادقين، فلماذا إذن التهديد والوعيد بعد نيل ما يتمنون؟
إنها ليست قصة سليماني؛ بل قصة إيران الملالي التي تريد إزالة دول ومحو أخرى أو إضعافها، كي تسود على المنطقة.
لقد حصل سليماني على أعلى وسام عسكري في إيران: وسام «ذو الفقار» الذي وضع عام 1856 في عهد إمبراطورية القاجار. ويوم علَّق المرشد علي خامنئي الميدالية على صدره، في شهر فبراير (شباط) الماضي، قال فيما يبدو وكأنه «تنبؤ»: «تحتاج الجمهورية الإسلامية إليه لسنوات كثيرة أخرى، ولكني آمل أن يموت في النهاية كشهيد».
بعد مقتله شعر العالم بالقلق؛ لكن إيران في مأزق، إذا انتقمت عبر وكلائها دون أن تتبنى الهجوم، فإن ذلك لا يعتبر انتقاماً لسليماني، وإذا زعمت أنها وراء أي هجوم فسيخاطر النظام بمزيد من الغضب عليه، في بلد يُعاني اقتصاده من انهيار من دون قعر، وقد ينهار معه. النتيجة الأكثر ترجيحاً لمقتل سليماني هي نفسها: حرب إيرانية مخففة ضد أميركا. فإيران لا تخوض حرباً مباشرة؛ لكنها تواصل حربها بالوكالة حتى آخر غير إيراني؛ لكن مع رحيل سليماني ستكون الحرب الإيرانية بالوكالة أضعف بكثير.
التهديد بحرب عالمية ثالثة أمر سخيف، وحتى «خطر» مجرد الحرب يبدو غير مرجح بشكل متزايد، والأدلة على أن مقتله سيؤدي إلى تصعيد كبير غير موجودة. من المرجح أن تصعِّد إيران وتنتقم بطريقة ما، ولكن هذا لا يعني الحرب. ثم إن إيران حتى قبل مقتله تصعِّد.
كانت بعض تعليقات الأميركيين والأوروبيين حول قرار الرئيس دونالد ترمب، بأنه استدعى الحرب، وهذا تعليق قصير النظر. فإيران والنظام السوري يشنان حرباً على السوريين منذ سنوات، راح ضحيتها نصف مليون سوري. ثم إن العراقيين الذين يتظاهرون منذ شهر أكتوبر (تشرين الأول) في بغداد وجنوب العراق، لم يحزنوا لرحيل سليماني وأبو مهدي المهندس، لتورطهما ورجالهما في حملة قتل ضدهم أسفرت عن 400 ضحية. ثم إن أبناء شمال سوريا وزعوا الحلوى لدى سماعهم بالخبر.
أول رد فعل لإيران كان إجبار البرلمان العراقي على المطالبة بخروج القوات الأميركية من البلاد. لم يحضر تلك الجلسة لا الأكراد ولا السنة، ثم إن كثيراً من الشيعة العراقيين يصرون على بقاء تلك القوات، كي لا يتم عزل العراق دولياً فيصبح الأمر أسهل لإيران. إذا حصل هذا فإنه يلبي ما انتخب على أساسه ترمب، وهو خروج القوات الأميركية من العراق وأفغانستان.
تحليلات الموالين لإيران واليسار الغربي ثارت ضد الإمبريالية، من دون الاهتمام بما تفعله إيران بتكلفة هائلة للشعوب العربية، السورية والعراقية واليمنية واللبنانية، وما تفعله بشكل عام للمنطقة. لقد فعلت الولايات المتحدة أشياء فظيعة في الشرق الأوسط، وهذا واضح؛ لكن القتل الجماعي المتعمد والممنهج الذي ساعد سليماني في تنظيمه والتخطيط له، ليس أقل فظاعة.
منذ عام 2006 والرؤساء الأميركيون يضعون سليماني على قائمة القتل ويتراجعون. ثم جاء ترمب ونفذ. ستحاول إيران جعل المنطقة أكثر صعوبة للقوات الأميركية والدبلوماسيين وحتى الشركات، ولن تمتثل لالتزاماتها بالاتفاق النووي. رد فعل الولايات المتحدة على هذه الأعمال سيحدد لاحقاً خطر الحرب المباشرة!
يدرك كثيرون أنه يتعين على إيران أن تفعل شيئاً من أجل الاستهلاك «المحلي»، مثل إطلاق عدد قليل من الصواريخ هنا وهناك على المصالح الأميركية في الشرق الأوسط؛ لكن حرباً مفتوحة كاملة مع أميركا القوة العظمى ستكون انتحارية بالنسبة إلى إيران. ثم إن المشكلة داخل إيران هي أن «الحرس الثوري» ليس قوياً كما كان يُعتقد، والإيرانيون لا يريدون تصعيداً نحو الحرب المفتوحة، ثم هناك مشكلة المال. جاء مقتل سليماني لصالح النظام، إذ حشد الجماهير حول الوطنية وضد عدو أجنبي، وقد يستفيد النظام لسحق الاحتجاجات الداخلية المستمرة، ثم إن المرشد تخلص من شخصية ذات مكانة متنامية، واعتمدت «عبادة الشخصية»، وهذا ليس سيئاً للنظام.
في الحد الأدنى سيؤدي مقتل سليماني إلى زيادة في الصراع غير المتكافئ في المنطقة، وإلى هجمات إلكترونية.
ويقول لي معارض إيراني، إن القول بأن سليماني هو مجرد إرهابي، تقليل من أهمية دوره بشكل كبير. لقد أمر ووجَّه مليارات الدولارات إلى المنظمات التي تمارس الإرهاب. إن قتل سليماني لا يشبه قتل رئيس منظمة إرهابية؛ بل يشبه قتل رئيس منظمة إرهابية ورئيس دولة في آن. كان سليماني شوكة إرهابية لسنوات طويلة. وقد يرى المرشد في قتله استفزازاً للحرب؛ لكنه ضعيف ويفقد قوته.
بعد ساعات من مقتله، تجمع العراقيون للاحتفال. حتى في طهران أثناء جنازته قال إيرانيون: لقد حصل على ما يستحقه. ولو كان النظام الإيراني منطقياً لرأى أن جرائمه في سوريا والعراق وأفغانستان جعلت الأمم تكرهه. مشكلة النظام أن جوهره وآيديولوجيته يتعارضان مع السلام.
لم تبدأ سياسات إيران الإقليمية وعبر الوكلاء ولن تنتهي مع سليماني؛ لكنه لعب دوراً حاسماً في تنمية العلاقات مع الوكلاء وقياداتهم ومقاتليهم. وسوف يترك موته فراغاً في علاقات إيران بالوكلاء. الفراغ لأنه ليس لسليماني خليفة طبيعي يتمتع بالخبرة نفسها، ولديه المستوى نفسه من العلاقات الشخصية. كانت علاقاته الشخصية مصدر قوة له ولسياسات إيران الأمنية، من هنا يعتبر رحيله ضربة كبيرة لقدرات وكلاء إيران وسياساتها الإقليمية.
لقد أعطى رحيله «لحظة احتفال» للعراقيين والسوريين الذين فقدوا أحبابهم بسبب طموحات سليماني، فجاء اغتياله ضمن الحرب التي شنها.
كان معروفاً بأنه لن يموت بشكل طبيعي، ولم تترك «عبادة شخصيته» خلفاء واضحين. ولمعرفة لماذا يردد وكلاء إيران أن رحيله قد يطلق الحرب، من المهم النظر إليه باعتباره «علامة فارقة» ورمزاً للجمهورية الإسلامية، وليس فقط قائداً لـ«فيلق القدس» التابع لـ«الحرس الثوري».
في إيران كثير من القادة؛ لكن كان لديها سليماني واحد فقط. بدأ صعوده في لبنان في نهاية التسعينات، مع انسحاب إيهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك من جنوب لبنان، فاعتبر ذلك انتصاراً لسليماني و«فيلق القدس» و«حزب الله». وكانت نهايته في العراق. أصبح لاعباً إقليمياً بارزاً، تمتع بموهبة كيفية استغلال البنية السرية التي أنشأها لسنوات كثيرة، لتحقيق أهداف غير سرية: القتال، الفوز، وتثبيت الوجود.
في أيامه الأخيرة، شعر أنه ضمن سوريا؛ لكن فاجأته مظاهرات لبنان والعراق. اختل توازنه، إذ بالنسبة إليه لم تنتهِ حقاً الحرب الإيرانية – العراقية. هذا ما قاله ريان كروكر السفير الأميركي السابق لدى العراق. كان هدفه تحقيق انتصار ساحق على العراق، فإذا لم يحصل جعل العراق بلداً ضعيفاً، فقتل فيه.
وفي رواية للجنرال ديفيد بترايوس، أنه قد وصلته رسالة هاتفية من سليماني بواسطة الزعيم الكردي جلال طالباني، جاء فيها: «الجنرال بترايوس، عليك أن تعلم أنني قاسم سليماني، أتحكم في سياسة إيران فيما يتعلق بالعراق وغزة وأفغانستان ولبنان». وكان لبنان محطته الأخيرة قبل أن يلقى حتفه في بغداد!