جهاد الخازن
أحيا الفلسطينيون والعرب قرب نهاية الشهر الماضي مئوية شاعرهم الشهيد عبدالرحيم محمود، وتلقيت دعوة من الكلية العصرية الجامعية بالتعاون مع وزارة الثقافة الفلسطينية للمشاركة في احتفالية بالمناسبة، كما تابعت ندوة نظمتها جامعة القدس المفتوحة في ذكرى المئوية كان بين المتحدثين فيها ابنه الطيب عبد الرحيم.
لا أذهب إلى الأراضي الفلسطينية وهي تحت الاحتلال، وأعترف بأنني لم أسمع عن الشاعر الفارس عبد الرحيم محمود وأنا ادرس الأدب العربي في الجامعة، وإنما كان بدء معرفتي به وقوعي على بضعة أبيات قالها ترحيباً بالأمير سعود بن عبد العزيز، الملك بعد ذلك، عندما زار الحرم الشريف في القدس في 14/8/1935. هو قال:
يا ذا الأمير أمام عينك شاعر/ ضُمَّت على الشكوى المريرة أضلعه
المسجد الأقصى أجئت تزوره/ أم جئت من قبل الضياع تودعه
وغداً وما أدناه لا يبقى سوى/ دمع لنا يَهْمي وسِنٌ نقرعه
الشاعر لم يؤت علم الغيب ولكن يجد القارئ في شعره بضعة أبيات أصابت في توقع المصاب التالي، وكأن الشاعر ينقل عن تلك الكرة البلورية الخرافية.
قصيدته المشهورة «الشهيد» هي من هذا النوع وهو يقول فيها:
ونفس الشهيد لها غايتان/ ورود المنايا ونيل المنى
لَعمرك أني أرى مصرعي/ ولكن أعدّ إليه الخطى
أرى مقتلي دون حقي السليب/ ودون بلادي هو المبتغى
الشاعر حصل على ما توقع وأراد ورأى مصرعه في تموز (يوليو) 1948 خلال معركة قرية الشجرة على طريق طبريا، فكان موته كما قال:
سأحمل روحي على راحتي/ وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق/ وإما ممات يغيظ العدى
قرأت أن عبد الرحيم محمود أصيب في رأسه خلال المعركة، ونقل إلى المستشفى فتوفي في حادث على الطريق، وهو ينشد لرفاقه:
احملوني احملوني/ واحذروا أن تتركوني
وخذوني لا تخافوا/ وإذا مت ادفنوني
كنت بعدما قررت أن اقرأ المزيد عن حياه الشاعر وشعره وقعت له على قصيدة في ذكرى تأسيس جامعة الدول العربية، هي أيضاً تعكس أحوالنا اليوم اكثر مما فعلت سنة 1948.
الشاعر قال عن الجامعة:
حَفِيَ اللسان وجفّت الأقلام/ والحال حال والكلام كلام
مرت بنا الأيام لم نسلك بها/ جَدَد الصواب ومرّت الأعوام
وتخاصم القوّاد بين مشرّقٍ/ ومغرّب وتقطّعت أرحام
عبدالرحيم محمود استشهد عن 35 عاماً وهو ذكرني بشاعر فلسطين الكبير إبراهيم طوقان الذي توفي عن 36 عاماً بعد أن غلبه المرض، وأفكر ماذا كان قدم هذان العلَمان لوطنهما والأمة لو عاش كل منهما العمر كاملاً.
كتبت عن إبراهيم طوقان غير مرة، فلا أعود اليوم، وإنما اكتفي بأبيات من قصيدته «الشهيد» فهي تذكرنا بالشهيد عبد الرحيم وكل الشهداء. الشاعر قال:
عبسَ الخطب فابتسم/ وطغى الهول فاقتحم
رابط النفس والنهى/ ثابت القلب والقدم
وإذا لم تخني الذاكرة فهو يختتمها قائلاً:
صعّد الروح مرسلا/ لحنه ينشد الملا/ إنّا لله والوطن.
كلنا لله وللوطن، ولكن نرجو أن يكون الوطن لنا، فلعل من رحمة الله بإبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود انهما توفيا قبل أن يريا المصائب التالية، وقتل واحداً المرض والآخر العدو، بدل أن يموتا قهراً على القدس الشريف.
ثمة كتب كثيرة ودراسات عن عبد الرحيم محمود، وسيرته تظهر أنه مناضل عربي، بقدر ما هو فلسطيني، وعند بدء الحرب العالمية الثانية هاجر الشاعر إلى العراق ودرّس العربية فيها، ثم التحق بالكلية الحربية في بغداد، وتخرج منها برتية ملازم، وشارك في ثورة رشيد عالي الكيلاني، وحين فشلت الثورة عاد إلى فلسطين ليستأنف النضال ويموت شهيداً، فلا يرى استشهاد فلسطين بعده، ومآسي العراق وكل بلد عربي.
نقلاً عن جريدة "الحياة"