أمير طاهري
استغرق الأمر أسبوعين كاملين من بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة، كي يصدر دعوته لوقف إطلاق النار في غزة. وهي إيماءة دبلوماسية من أدنى المستويات، حيث عكست الخطوة الخانعة من الأمين العام عدم الرغبة، ولا نقول عدم القدرة، لدى المجتمع الدولي في التعاطي مع الأسباب الحقيقية للصراع الدموي الدائر هناك.
ومن بين كل القضايا التي قسمت المجتمع الدولي فإن الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني المعروف هو أكثرها شحنا بالعواطف، وبالتالي هو الأقل عرضة للتحليلات السريرية. وحتى الآن، ودون ذلك التحليل، لا يمكن لأحدنا الأمل في أن وقف إطلاق النار من شأنه أن يوفر أي شيء أكثر من فترة هدوء للمتصارعين من أجل الإعداد للجولة التالية.
لماذا اندلعت الحرب أصلا هذه المرة؟
تندلع الحروب عادة حينما يكون أحد الأطراف أو أكثر من طرف في علاقة تخاصمية، ويصبح الوضع الراهن غير قابل للاستمرار.
في حالة غزة، كانت حماس هي أول من وصل إلى تلك الحالة الراهنة، والتي تكونت عقب الانسحاب الإسرائيلي في عام 2005، فلم تعد تحتمل. وأسهمت أحداث عدة في ذلك؛ أولها انهيار جماعة الإخوان المسلمين في مصر، الذي سبب حرمانا شديدا لدى حماس، وهي فرع من فروع «الإخوان»، ليس حرمانها فقط من حليف لصيق، بل وحرمانها كذلك من المناطق الخلفية التي كانت تتمتع فيها بحرية معقولة حتى في ظل حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك.
والتالي، المشاكل الاقتصادية الإيرانية المتصاعدة التي تعني انخفاض دعم طهران لحماس.
وأخيرا، عجز حماس عن إنعاش الاقتصاد الداخلي مقترنا بأساليبها السلطوية، مما يعني فقدان الكثير من الدعم الشعبوي الداخلي هناك.
ولتحريك الوضع الراهن، تحتم على حماس إعادة تسخين القرص البارد بإطلاق الصواريخ على إسرائيل.
ومن خلال ذلك يمكن لحماس الزعم بأنها «تقاوم العدو الصهيوني»، وبالتالي فإنها تستحق المزيد من الدعم من الدول الإسلامية. ويمكنها كذلك إسكات المنتقدين داخل المجتمع الفلسطيني، ومنهم الموجودون داخل غزة نفسها. ومن أكثر الأمور أهمية، أن حماس تأمل في السعي لقضم نصيب الأسد في حكومة وطنية يجري الاتفاق عليها مع حركة فتح.
غير أن ما تجاهله قادة حماس هو أن إسرائيل، بإحساسها أن الوضع الراهن صار لا يطاق، قد تقتنص الفرصة لمحاولة التغيير.
إن إجراء انتخابات حرة وتشكيل حكومة وحدة وطنية من شأنه تقوية الموقف الفلسطيني في أي مفاوضات للتسوية النهائية مع إسرائيل. إن حل الدولتين «المحتضر» يمكن إنعاشه بدعم من واشنطن والدول العربية
وفي السياسة، إذا كنت لا تستطيع أن تخبر الآخرين بما تريده في عبارة واحدة فالأفضل أن تحتفظ بصمتك حتى يمكنك ذلك. فما هو هدف حماس، في عبارة واحدة؟ ليس من العسير معرفة ذلك، حيث إنه بالفعل مذكور في ميثاق الحركة: إبادة إسرائيل!
ويقينا، يمتلئ العالم بحركات مسيحية - يهودية، وألفية، وطوباوية، وغيرها ذات أجندات مكرسة لخدمة أهداف مثالية، وليس هناك من سبب يدعو حماس لأن تختلف عنها.
تعيش حماس في عالم من الخيال، وتناست أن شعبها، أهل غزة، معظمهم من اللاجئين، وهم شديدو التعلق بفلسطين وليس بحكم إسلامي على أفضل تقدير. إذا نالت حماس الدعم بين شعبها فسيكون بسبب أنها تقاتل من أجل محنتهم وليس للأجندة الإسلامية التوسعية. وعلى الجانب الآخر، فإن حقيقة أن السلطة الفلسطينية لم يكن لديها ما تقدمه على مائدة مفاوضات السلام لما يربو على عشرين عاما كانت أحد أسباب قوة حماس.
وهدف إسرائيل، ضمن سياق الوضع الراهن في غزة، هو وقف الهجمات الصاروخية على أراضيها.
ومن الناحية النظرية، لدى إسرائيل من الموارد ما يمكنها من تحقيق هدفها؛ إذ يمكنها إعادة احتلال غزة، وتفكيك مواقع الصواريخ، وتدمير شبكة القيادة والسيطرة لدى حماس، وإطلاق سراح مناوئي حماس من السجون، واعتقال أو قتل كوادر حماس. مثل ذلك السيناريو أصعب في تنفيذه الآن قبل ثلاثين عاما، حينما غيرت إسرائيل حالة الوضع الراهن غير المرغوب فيها في لبنان من خلال الحرب.
إننا نعيش في عالم حيث نادرا ما يسمح للحرب بأداء وظيفتها وهي تفكيك حالة الوضع القائم وبناء وضع جديد، نظرا لأن المزاج العالمي مضاد للحرب، ومن الصعب الدفع بأن الحرب كانت دوما ومن المرجح أن تظل أداة فاعلة في تنظيم العلاقات المتنازعة بين الشعوب. لا يمكن لأحد المجادلة بأن الحرب، مثل العملية الجراحية لإزالة السرطان، تعتبر أحيانا ضرورية كملاذ أخير.
من المرجح للحرب على غزة أن تثبت أنها عديمة النفع. فالرأي العام الإسرائيلي والدولي، والضغوط الأميركية، وارتفاع تكاليف الحرب الحديثة، عوامل قد لا تسمح في مجموعها لنتنياهو بالاستفادة الكاملة من الحرب كأداة لإعادة صياغة الحقائق الجيوسياسية. غير أن الأسوأ هو أنه، بدلا من مطاردة حماس خارج غزة، قد ينتهي الحال بنتنياهو إلى مساعدة حماس على العودة إلى الضفة الغربية.
من جانبها، تعتبر حماس ضعيفة للغاية حتى تستطيع إعادة تشكيل الوضع الراهن لمصلحتها. فبمجرد صمت الأسلحة سوف نعود من حيث بدأنا في المقام الأول بالإضافة إلى عواقب الحرب غير المنتهية.
إسرائيل هي العلة (الصهيونية) التي عبرت عن وجودها من خلال إقامة الدولة. أما حماس، مع ذلك، فهي جماعة متحمسة للدين حتى الموت تهدف إلى إبادة إسرائيل بدلا من إقامة الدولة الفلسطينية. ولا يتفهم كلا الخصمين قواعد الخصم الآخر.
شاهدنا منذ عام 1948 صعود وهبوط 17 حركة «تحررية» فلسطينية، مع استثناء واحد، أنها جميعها كانت حركات قومية في ذات القالب الذي تقولبت فيه الجماعات التحررية الوطنية التي نشأت عقب الحرب العالمية الثانية. ومرة أخرى، ومع استثناء واحد كذلك، حتى مع الماركسية، أو الستالينية أو الماوية، فإن كل تلك الحركات ضمنت اسم «فلسطين» في هوياتها الخاصة.
كانت حماس هي الاستثناء الوحيد؛ فإنها ترى نفسها جزءا من حركة إسلامية عالمية توسعية، وبالتالي لا معنى للدولة لديها، وهي في ذلك تعكس طاقة سلبية تقوض من آمال الفلسطينيين حيال إقامة دولتهم المنشودة.
يتعين أن تذكرنا مأساة غزة بحقيقة وحيدة: إذا ما كان هنالك شيء هو أسوأ من الحرب، فإنه الحرب غير المنتهية.