في حين أن نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة تستحوذ على جل الاهتمام داخل الولايات المتحدة وخارجها، فإن هناك سؤالاً قوًيا وحقيقًيا أولى بالانتباه والاهتمام: ما الذي سيحدث بعد وصول الرئيس الجديد إلى عتبات البيت الأبيض؟
وذلك السؤال ليس ضرًبا من الخيال على أي حال. على مدى قرنين من الزمان تمتعت الولايات المتحدة بحالة رائعة من توافق الآراء، كان الخاسر في كل انتخابات رئاسية يقبل النتائج بارتياح بل ويعرض العمل مع الطرف الفائز من أجل خدمة الصالح العام للبلاد. وتتفق جميع أطراف وأطياف الحياة العامة الأميركية، ولو بصورة ضمنية على أدنى تقدير، أنه لا استمرار
للعملية الديمقراطية من دون تقديم درجة ما من التنازلات، التي قد تكون في حين من الأحيان مسببة لنوع من الهوان لبعض الأطراف دون بعض. غير أن الأمور قد تبدو مختلفة للغاية هذه المرة.
فلقد شرع المرشح الجمهوري دونالد ترامب في بث الشائعات بأن هناك أيادي خفية تعمل منذ الآن على تزوير الانتخابات الرئاسية الأميركية حتى تصب نتائجها في صالح هيلاري كلينتون مرشحة الحزب الديمقراطي المنافس، ملمًحا إلى أنه إذا حدث ذلك فسوف يكون لأنصاره ما يكفي من التبريرات لاتخاذ مسار العنف.
ومن جانبه، بث معسكر السيدة كلينتون قدًرا من الشائعات في الآلة الإعلامية، بما في ذلك الزعم بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يحاول القرصنة واختراق حواسيب الانتخابات الأميركية لضمان فوز المرشح ترامب.
ومنذ الأيام الأولى، تبعث الانتخابات الرئاسية الأميركية بقدر لا بأس به من الفجاجة والمرارة اللفظية. ورغم ذلك، فنادًرا ما شهدت الولايات المتحدة انقسامات حادة وفق المعايير العرقية أو الدينية أو المذهبية أو على مستوى الهويات الآيديولوجية.
وبدأت سياسات «فرق تسد» العقيمة مع باراك أوباما في عام 2008 عندما أسس بنفسه «تحالف طيف الأقليات الأميركية».
وبعد مرور ثماني سنوات لم يعد «تحالف طيف الأقليات» ذلك على حاله كما كان عليه الأمر في ذروة الأحداث. ورغم ذلك، فلقد تمكن من غرس حالة من المرارة والاستياء طويلة الأمد وواسعة النطاق داخل ربوع السياسة الأميركية. ولقد جعلت من الغبن والمظلومية السياسية ليست مجرد أدوات مقبولة على المستوى السياسي فحسب، بل جالبة للربح والمكاسب أيًضا.
واليوم، يمكنك ولوج الساحة السياسية العامة في الولايات المتحدة رافًعا لافتة كبيرة على كتفك ومطالًبا بالقصاص للأخطاء الحقيقية أو المتوهمة التي طالت أجدادك وأسلافك القدامى الذين وطأت أقدامهم شواطئ البلاد منذ قرون بعيدة.
ولقد بذلت عائلة أوباما قصارى جهدها من أجل تعزيز الثقافة التي يطلق عليها الفرنسيون «الاستياء عميق الجذور».
وطاف باراك أوباما بنفسه العالم لنقل صورة عن الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها ذئًبا كبيًرا سيئ السمعة ولتقديم الاعتذار للضحايا الحقيقيين أو المتوهمين.
وأدلت السيدة الأولى ميشيل أوباما بدلوها هي الأخرى في تلك المسألة. ففي خطابها لمؤتمر الحزب الديمقراطي خلال الانتخابات الرئاسية الجارية، قدمت عرًضا من الدرجة الأولى لحالة «الاستياء عميقة الجذور»، حيث قالت إنها تستيقظ في صبيحة كل يوم داخل البيت الأبيض لتتذكر أن ذلك المبنى الذي ُتحكم منه البلاد قد بنته سواعد العبيد السود.
وتناست بكل سهولة أن زوجها هو نصف أفريقي وأن نصفه الأفريقي ذاك لا يحمل أي إشارة لتاريخ من العبودية في الولايات المتحدة، وذلك لسبب بسيط، وهو أنهم ليسوا مواطنين أميركيين في المقام الأول.
كما أنها نسيت كذلك أن البيت الأبيض الأصلي، الذي استغرق بناؤه ثمانية أعوام وكان أول من استخدمه الرئيس الراحل جون آدامز في عام 1800 ،كان من تصميم المهندس المعماري الآيرلندي الأصل جيمس هوبان وفرقته من عمال البناء الآيرلنديين. وقد يكون هناك بعض العمال الأفارقة بين من ساعدوا على تشييد المبنى للمرة الأولى، ولكن ليس هناك من دليل تاريخي على أنهم كانوا عبيًدا لدى المهندس هوبان.
وعلى أي حال، فإن المبنى، الذي تستيقظ السيدة ميشيل يومًيا لتتذكر من خلاله حالة «الاستياء عميقة الجذور» التي تعاني من وطأتها على ذاكرتها، ليس هو المبنى الذي استكمل بناؤه في عام 1800 ،فلقد حرق البريطانيون البيت الأبيض في عام 1814 في حريق واشنطن الكبير ذلك العام، وبعد استعادة المبنى وترميمه، شهد البيت الأبيض عدة تحولات في عام 1901 وعام 1927 وعام 1946 أي بعد فترة طويلة من إلغاء الرق والعبودية في الولايات المتحدة بموجب القوانين والتشريعات المستحدثة. وفي عام 1948 ،في عهد الرئيس الأسبق هاري ترومان، أعيد تصميم المبنى بالكامل مرة أخرى على وضعه الحالي ولم يتبق من المبنى القديم سوى الأعمدة الخارجية.
وإن لم تكن السيدة ميشيل أوباما تمتلئ كرًها للولايات المتحدة لقالت إنها تستيقظ في كل صباح داخل البيت الأبيض لتنعش ذكراها بالديمقراطية الأميركية التي منحتها، وهي سليلة الأفارقة العبيد، الفرصة الذهبية للزواج برجل حر من أصول عرقية ممتزجة، والذي صار رئيًسا للولايات المتحدة.
وليست حالة «الاستياء عميقة الجذور» حكًرا خاًصا لعائلة أوباما، ففي وقت سابق من هذا الشهر، قال لاعب كرة القدم الشهير، كولن كابرنك، إنه حتى يكون نجم كرة القدم في فريق سان فرانسيسكو فلقد رفض الوقوف احتراًما أثناء عزف السلام الوطني للولايات المتحدة المعروف باسم «الراية الموشحة بالنجوم».
ولما سئل عن سبب تصرفه ذلك، أجاب بقوله: «لم أكن لأقف احتراًما وتبجيلاً لراية دولة تقمع المواطنين السود والمواطنين الملونين على أراضيها».
وكان، بالطبع، يشير إلى حادثة إطلاق النار من جانب بعض رجال الشرطة الأميركيين على عدد من المواطنين الأفارقة في ظل ظروف وأجواء تتسم بالشك والريبة.
ولقد أثارت تلك الحادثة سيلاً عارًما من مشاعر الاستياء والكراهية داخل الولايات المتحدة. وهناك أربعة أبيات من الشعر تضع خط النهاية للمقطع الثالث من النشيد الوطني الأميركي والتي اعتبرت «دليل إثبات» على استحقاق الولايات المتحدة تهمة الشيطنة والاستياء. وتقول الأبيات الأربعة:
لا ملجأ هنالك للرقيق أو الأجراء من رهاب الهروب أو ظلام القبور وترفرف الراية الموشحة بالنجوم فوق رؤوس الجميع تتغنى بأرض الأحرار وموطن الشجعان وما يتجاهله مروجو حالة «الاستياء عميقة الجذور» أن فرانسيس سكوت كاي ألف أبيات النشيد الوطني الأميركي في عام 1814 لتكون نشيًدا حربًيا بعد القصف العنيف من قبل القوات البريطانية الغازية لقلعة
على الأراضي في كندا، ودفعهم للوراء نحو العاصمة واشنطن التي، كما أشرنا من قبل، تعرض بيتها الأبيض ماكهنري في مدينة بالتيمور. وفي ذلك الوقت، تمكن البريطانيون من سحق المحاولة الأميركية للاستحواذ للحرق على أيدي القوات البريطانية.
والقوات البريطانية التي غزت الأراضي الأميركية بقوة تصل إلى 20 ألف جندي لم تكن تستطيع مواصلة جهودها الحربية من دون تعزيزات على الأرض. ولقد عمدوا من أجل ذلك إلى التجنيد، وفي بعض الحالات، نفذوا التجنيد القسري بحق العبيد السود الذين كانوا يفرون من الحقول التي كانوا يعملون فيها لصالح أسيادهم من البيض، مما يفسر الإشارة إلى هروب الرقيق المذكور في أبيات النشيد الوطني الأميركي.
كما حاول الجانب البريطاني أيًضا تجنيد المرتزقة في أوروبا، في إشارة إلى «الأجراء» في النشيد الوطني الأميركي. وفي مرحلة من المراحل أنشأت القوات البريطانية وحدةُعرفت باسم «مارينز المستعمرات» من العبيد السود، ومن المرتزقة الأوروبيين، ومن المنشقين الأميركيين البيض.
وفي نهاية المطاف فشل الجانب البريطاني في تدمير الولايات المتحدة ذات الاستقلال الوليد، أو الإطاحة بالسيد ماديسون، أو كما كان القائد العسكري البريطاني يسمي الرئيس الأميركي آنذاك جيمس ماديسون.
وكان من تداعيات الحملة البريطانية الفاشلة رحيل 6 آلاف من الأميركيين الأفارقة، الذين قاتلوا إلى جانب القوات البريطانية، أو إعادة توطينهم في كندا وجامايكا. لقد تسبب النشيد الوطني الأميركي في تعميق حالة الاستياء الوطنية ضد أولئك العبيد أو الأحرار الذين وقفوا إلى جانب العدو في الحرب.
إن تجار حالة «الاستياء عميقة الجذور» لا يمكن العثور عليهم الآن في «تحالف طيف الأقليات الأميركية» الذي أسسه باراك أوباما فحسب، بل يمكن للمرء العثور عليهم أيًضا في معسكر دونالد ترامب الذي استمال الأتباع والأنصار لأنواع أخرى من الاستياء الوطني الموهوم. غير أن ذلك الأمر في حاجة إلى مقال آخر مستقل!