نذ أن ظهر الملالي في إيران كأصحاب مهنة مميزة في القرن التاسع عشر، استطاعوا تطوير أدواتهم الشخصية الغريبة المرتبطة بتجارتهم. شمل ذلك عدًدا من المسابح بعضها يتكون من 30 حبة وبعضها 90 وبعضها 180 حبة، وأماكن للصلاة مبنية من الطين، وبالطبع نمط من الأزياء تؤدي وظائف مختلفة منها رداء خارجي به جيب كبير يستطيع الشخص أن يخفي فيه كتاًبا أو رغيًفا من الخبز، أو في أخطر الأحوال كما هو الحال حالًيا، يستطيع أن يخفي فيه مسدًسا عيار 45 مع كاتم للصوت.
أحد أفضل تلك المهمات كانت قطعة القماش الطويلة المتصلة بالعمامة الإجبارية، وهي مصممة كي تغلق فم صاحبها لتجعل التكلم صعًبا.
في اللغة الفارسية، تعرف قطعة القماش تلك بكلمة دنهباند (أو مغلق الفم) غير أن أغلب الملالي يفضلون الكلمة العربية «تحت الحنك»، أي أسفل الفك. يعمد البعض لربط «تحت الحنك» مع مؤخرة العمامة، وعند الحاجة يقوم بفردها حول الرقبة ثم يعقدها من تحت الذقن كي يضغط الشفة السفلية تجاه العلوية، مما يجعل الكلام صعبا.
وفي الأيام السعيدة، أو السيئة الماضية، قلها حسبما تفضل، اعتاد الملالي استخدام تلك المهمات عندما يدخلون «الشلة»، فترة اعتكاف تدوم 40 يوًما يقرأون فيها أول 30 سورة من القرآن، ويتعهدون فيها بالصمت، ويحاولون خلالها فهم المعاني العميقة للأشياء.
وغالًبا ما كان الملالي يرتدون «تحت الحنك» عندما يريدون التعمق في الفكر وفي الصلاة، أو في الحقيقة، عندما لا يريدون الإجابة عن أسئلة مريديهم. في بداية عام 1900 عندما امتلك الإيرانيون الشجاعة الكافية لهجاء الملالي، أرسل الشاعر الهجائي إيراج ميرزا، وهو المحظور اليوم في الجمهورية الإسلامية، أرسل «تحت الحنك» للشيخ فضل الله نوري، أحد الملالي العسكريين الموالين لروسيا الذي عارض الحكم الدستوري في إيران. أراد الشاعر من الملا أن يغلق فمه والتفرغ للصلاة، لا لإصدار تصريحات سياسية.
ومن الحكم من خلال الصور في الإعلام والتلفاز، يظهر عدد من ملالي إيران اليوم مرتدين «تحت الحنك»، وهذا ما يفسر إصابتهم بداء الثرثرة وبعدم القدرة على التوقف عن الكلام عن أي شيء طالما أن ذلك ليتعرض لمهنتهم الأساسية وهى الدين.
ولنأخذ المرشد الأعلى علي خامنئي كمثال، فهو يستحق دخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية نظًرا لعدد الخطب التي ألقاها في عام واحد وللتنوع الرهيب في الموضوعات، وفي جميع الموضوعات باستثناء الدين. كذلك سبق له نشر ستة كتب تشمل موضوعات مثل كيف تحكم إسرائيل وكيف تكتب شعًرا إسلامًيا، أسرار الزواج الناجح، أسرار الحمية الصحية، لغويات تشومسكي الكاذبة لإيقاف الهيمنة المتزايدة للغة الإنجليزية، ومؤخًرا كيف أحيا آيه الله الإمام الخمينى الإسلام قبل مماته. لم يكن خامنئي الملا الوحيد الذي سعى للتكسب من حكاياته التي يرويها.
على أي حال فهو سياسي أكثر منه عالم لاهوت، وقد يكون ذلك مبرًرا إن كان يبدي تعطًشا للكلام. لكن دعونا نفكر في غيره من آيات الله، ولنقل مثل حسن علام الهدى، الذي أفضله عن غيره من مشهد، أو نصر مكرم شيرازي من قم، الذي يبدو متفرًغا لواجب التعليق على كل شيء بهدف كتابة عناوين جذابة البلاد لثماني سنوات، اعتاد نفس الكلام عديم الجدوى عن طريق الحديث عن هيغل، نيتشه، وهوبيس مستخدًما شعارات غريبة. أما عن غيرهم ممن حظوا بتعليم أفضل مثل محمد خاتمي، الذي تولى رئاسة كمقدمة لتوجيه اللوم وكيل الاتهام للحضارة الحديثة كسبب لعلل الإنسانية.
لا تسيء فهمي، فأنا أعتقد أن للملالي الحق كل الحق في الحديث عما يشاءون شأن الأكاديميين، وكًتاب الأعمدة، وسائقي التاكسي، أو حفاري القبور. لكن المشكلة أن العالم الخارجي ينظر إلى إيران كنظام ثيوقراطي يمثل فيه الملالي النخبة الحاكمة، بمعنى أن آراءهم تعكس الموقف الرسمي لدولة إيران. نفس الشيء ينطبق على الدول التي يسيطر فيها الجيش على مقاليد الأمور، فأي تصريح يصدر عن ضباط الجيش أو أقل العسكريين رتبة سوف يجذب الانتباه.
لا شيء في إيران أبسط من الكلاشيه «حكم الملالي»، بيد أن هذا الشعار لا يستخدم بشكل صريح ومباشر. في الحقيقة، قلة قليلة فقط من الساسة الملالي مثل خامنئي، أو مكرم انخرطوا في لعبة السلطة الملتبسة والمركبة التي حكمت إيران منذ عصر الخميني، بمساعدة حلفائه الماركسيين والستاليين، وسيطرته على الحكم عام 1979.
فشل الخمينيون في تدمير إيران كدولة ذات شعب واحد، إلا أنهم نجحوا في خلق حقيقة موازية كونوها من خليط آيديولوجي خاص بهم. ولذلك يتعين علينا بناء جيشين، ونظامين قضائيين، وبيروقراطيتين واقتصادان ليعكسا انقسام شخصية إيران كشعب عريق فخور بذاته، وكمركبه لأيديولوجية جديدة مريضة.
يمثل الملالي المفوهون إيران الثانية، في حين أن الأغلبية الساحقة من رجال الدين الشيعة، منهم كبار رجال اللاهوت، يبعدون أنفسهم ولا يزالون يفعلون عن النظام الخميني. الآلاف منهم دفعوا ثمن هذا الموقف المعاناة في السجون، والاعتقال من المنازل، والنفي، والاستهداف وحتى الإعدام. الضرر الذي لحق بإيران هو نتاج عمل الأقلية من ملالي السياسة الذين يتحدثون كثيًرا ووضعوا الشعب الإيراني في مواجهة مع نفسه، بإهانة الأقليات، وتهديد النقاد، وبإشعال العنف والإرهاب والرعب داخل البلاد، وخلق الأعداء بالخارج عن طريق الأحاديث المنفرة التي ينطبق بها إعلام الدولة الرخيص.
ستستفيد إيران من فترة الاعتكاف لمدة 40 يوًما التي سيلتزم الملالي خلالها الصمت (وإن كنت لا أجرؤ أن أتمنى صمًتا أبدًيا)، إذ يحتاج هؤلاء الملالي بالفعل إلى عمة «تحت الحنك».
بالمصادفة، علمت قبل يومين أن أفضل أنواع «تحت الحنك» تصنع من الحرير مزدوج النسيج، وكذلك أفضل أنواع العمائم، والأخفاف، والمسابح تستورد من متجر فاخر في ضواحي لندن التي يتعامل معها ملالينا منذ عقود. المشكلة هي أنهم لا يطلبون عمائم «تحت الحنك»، أنصحهم أن يفعلوا، فسوف تكون الفائدة كبيرة لهم، ولإيران.