يعمل نورمان مولر بوظيفة كتابية في ولاية إلينوي٬ وهناك أمر واحد في الحياة على الأقل يشعر بثقة تجاهه: أنه لم ولن يصوت في حياته. ومع ذلك٬ شاء القدر أن يقع اختيار كومبيوتر بالغ الضخامة عليه ليصبح الممثل الوحيد للناخبين الأميركيين خلال الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها هذا العام٬ تبًعا لنظام علمي جديد. في إطار النظام الجديد٬ يعمل الكومبيوتر على تسجيل جميع رغبات الناخبين وآمالهم ومخاوفهم٬ ويحدد على أساسها العامل المشترك الأدنى الذي يشكل النقطة التي يتفق عندها جميع المواطنين المؤهلين للإدلاء بأصواتهم. وفي هذه الحالة٬ وقع الاختيار على مولر٬ «بطل» قصة الخيال العلمي القصيرة «الرخصة»٬ للكاتب إيساك أسيموف٬ وطلب منه الاختيار من بين المرشحين. بيد أن متابعي الانتخابات الأميركية يدركون جيًدا أن الأمور على أرض الواقع ليست بالبساطة التي تخيلها أسيموف.
على امتداد فترة طويلة٬ كان اختيار المرشحين يجري من خلال اجتماعات سرية لعدد من الشخصيات النافذة داخل غرف تعبق بدخان التبغ تقع داخل حفنة من المدن الكبرى. في وقت لاحق٬ أصبح المرشحون يأتون من خلال آلات الأحزاب٬ التي يسيطر عليها بدورها عدد من الشركات الكبرى ونقابات عمالية وأصحاب نفوذ. وكشفت الحملات الانتخابية هذا العام عن وهن كبير في آلات الأحزاب وصعود جماعات «منشقة» داخل كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وكان هذا الأمر قد بدأ بالفعل بصعود ما يعرف باسم «حزب الشاي» داخل المعسكر الجمهوري وجماعات «البطيخ» (يحملون في الظاهر اللون الأخضر بحديثهم عن البيئة٬ لكنهم من الداخل يحملون لوًنا أحمر نظرًيا لآرائهم الماركسية) على الجانب الديمقراطي.
خارج الولايات المتحدة٬ ينصب قدر كبير من الاهتمام بالحملات الانتخابية على دونالد ترامب٬ المرشح الجمهوري الأوفر حًظا٬ وبيرني ساندرز الذي حطم «التابو» المرتبط بـ«الاشتراكية» باستخدامه هذا اللفظ خلال مساعيه للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي له. والمؤكد أن ترامب نجح بالفعل في إضفاء قدر من الإثارة على سباق انتخابي رتيب. وكلما تصرف كشخص عادي٬ بدا أمام جمهوره شخصية استثنائية من نوعها. في الواقع٬ لا أعتقد أن ترامب معاٍد للسامية أو الإسلام أو حتى كاره للأجانب بوجه عام٬ وإنما الأمر كله أنه يصبح أكثر إقناًعا للجماهير عندما يختلق الحديث على نحو عشوائي.
أما ساندرز٬ فإنه يحاول استغلال فكرة كونه يهودًيا مناهًضا لإسرائيل بأقصى درجة ممكنة٬ رغم أن إسرائيل ذاتها بها الكثيرون للغاية من أمثاله. من ناحيتهم٬ اعتاد الأوروبيون الاستهزاء بترامب باعتباره مليارديًرا مبتذلاً يظن أن كل شيء يمكن شراؤه بالمال٬ حتى منصب الرئاسة٬ لكنهم يغفلون أن أوروبا لديها بالفعل نسخ خاصة بها من ترامب٬ بينهم سيلفيو برلسكوني الإيطالي٬ الذي تولى رئاسة الوزراء في أربع حكومات٬ وبيرنار تابي الفرنسي الذي كان بمثابة «وزير متميز» في ظل حكومة رئيس الوزراء الاشتراكي بيير بيرغوفوي. أما ساندرز٬ فقد أثار فزع اليمين الأوروبي الذي نسي أن «الاشتراكي» الأميركي لا يزال على اليمين من قيادات باليسار الأوروبي٬ مثل غيرهارد شرودر٬ ناهيك بجيرمي كوربين.
ورغم الضجة الإعلامية الكبرى النابعة في الجزء الأكبر منها من كراهية التيار الرئيسي من وسائل الإعلام لترامب٬ وبدرجة أقل لهيلاري كلينتون٬ فإن الانتخابات التمهيدية اجتذبت اهتماًما قليلاً من الأميركيين.
ُيذكر أن أحدث التقديرات تشير إلى أن عدد سكان الولايات المتحدة يبلغ قرابة 330 مليون نسمة٬ بينهم نحو 260 مليوًنا مؤهلون للإدلاء بأصواتهم. ومع ذلك٬ تقدر نسبة الأميركيين الذين أدلوا بأصواتهم بالفعل حتى الآن في الانتخابات التمهيدية الجمهورية والديمقراطية قرابة 6.2 في المائة فقط. ونظًرا إلى أن نحو نصف الذين يحق لهم التصويت لا يدلون بأصواتهم في الانتخابات العامة غالًبا٬ فإن هذه النسبة قد ترتفع إلى نحو 13 في المائة٬ وهي نسبة تظل غير كبيرة.
الأمر الآخر المحير أن الانتخابات التمهيدية لم تتناول أًيا من المشكلات الكبرى٬ بما في ذلك إدارة التنوع التي يتعين على الديمقراطية الأميركية الحديثة مواجهتها. على الجانب الجمهوري٬ تركز الاهتمام على التجريح الشخصي٬ لدرجة طالت زوجات المرشحين أيًضا بعض الأحيان.
على الجانب الديمقراطي٬ وعد ساندرز بتوفير «مستويات جيدة من الرعاية الصحية والإسكان والوظائف»٬ بجانب تعليم مجاني. أما كلينتون٬ فقد علقت آمالها على إقناع الناخبين بأن الوقت قد حان كي تصل سيدة للبيت الأبيض٬ وهو هدف نبيل لكنه لا يرقى لمستوى برنامج انتخابي.
المثير أن أحدث استطلاعات الرأي كشفت أن غالبية الناخبين الأميركيين يفضلون حاكم أوهايو٬ جون كاسيك٬ على جميع المرشحين الآخرين٬ من الجمهوريين أو الديمقراطيين. بيد أن المشكلة تكمن في أنه بخلاف أوهايو٬ لم يفلح كاسيك في الفوز داخل أي ولاية أخرى خلال الانتخابات التمهيدية. خلال مقال كتبته منذ أكثر من عام٬ أبديت رفضي للاعتقاد الشائع حينها بأن المنافسة النهائية ستجري بين كلينتون وجيب بوش٬ ودعوت القراء لتوقع حدوث مفاجآت. في ذلك الوقت٬ لم يكن ترامب أو ساندرز قد جذب أي منهما اهتماًماُيذكر.
واليوم٬ لا تزال احتمالية المفاجآت قائمة؛ فعلى الجانب الديمقراطي ليس بوسعنا استبعاد مواجهة كلينتون لأزمات كبرى٬ الفترة المقبلة. بالنسبة للجمهوريين٬ فإن مجلس السحرة قد يلجأ لحيلة القبعة السحرية ليقدم لنا أرنًبا جديًدا في كليفلاند٬ ربما في صورة بول ريان٬ رئيس مجلس النواب حالًيا. في الحقيقة٬ تبقى جميع الانتخابات الأميركية عرضة لمفاجآت٬ لأن الأحداث الصغيرة المهمة يمكنها تغيير النتائج النهائية. لقد علمنا الآن أن «تغيير» بضعة آلاف من الأصوات في شيكاغو٬ أكثر الحواضر فساًدا من الناحية السياسية على مستوى البلاد حينها٬ وهيوستون التي كانت معقلاً للديمقراطيين٬ ضمن نجاح المرشح الديمقراطي جون إف كيندي.
ولكم أن تتخيلوا لو أن نيكسون٬ وليس كيندي٬ هو من فاز. ربما لم تكن الولايات المتحدة لتدبر انقلاًبا عسكرًيا ضد عصبة ديم في سايغون٬ وعليه٬ لم تكن لتنزلق على الجرف الخطر الذي ورطها نهاية الأمر في حرب داخل إقليم الهند الصينية.
ولكم أن تتخيلوا كذلك لو أن آية الله الخميني قد أطلق سراح الرهائن الأميركيين عام ٬1980 ثلاثة أشهر قبل موعد إطلاق سراحهم الفعلي. ربما حينها كان الرئيس جيمي كارتر٬ الذي تصدر باستمرار استطلاعات الرأي٬ سيعاد انتخابه٬ ولم يكن ليصل رونالد ريغان للرئاسة٬ ويطلق تحذيره الشهير: «سيد غورباتشوف! حطم هذا الجدار!».
أيًضا٬ تخيلوا لو أن الملياردير روس بيروت٬ الذي كون ثروته داخل إيران٬ لم يترشح للرئاسة كمرشح مستقل عام 1992 ويجتذب أصواًتا بعيًدا عن المرشحين الجمهوريين٬ ليضمن بذلك فوز بيل كلينتون في الانتخابات. حينها كان جورج إتش دبليو بوش الكئيب ليصبح الرئيس٬ ولم تكن مونيكا لوينسكي لتضمن مكاًنا لها في التاريخ الأميركي.
وأخيرا٬ تخيلوا لو أن جورج دبليو بوش لم يحصل على 312 صوًتا إضافية في فلوريدا٬ كان الديمقراطي آل غور الذي فاز بأغلبية الأصوات بباقي أرجاء البلاد سيصبح رئيًسا٬ ليطلق برنامًجا عالمًيا لإنقاذ الفراشات بجبال الأنديز بدلاً من غزو أفغانستان والعراق.