أمير طاهري
عادة ما تصف وسائل الإعلام الدولية الأزمة الراهنة في العراق باعتبارها حربا طائفية، انطلاقا من الافتراض بأن العراق يتمزق لأن مختلف الطوائف المكونة له، ولا سيما السنة والشيعة من العرب، قرروا بطريقة أو بأخرى أنهم لم يعودوا قادرين على العيش معا.
ما مدى دقة هذا التفسير؟
الإجابة عن هذا السؤال من الممكن أن يكون لها أثر كبير على نتائج الأزمة التي يشهدها العراق؛ فبعض هؤلاء الذين يدّعون أنه لم يعد من الممكن أن يعيش العراقيون بعضهما مع بعض يصرون على أن الحدود التي وُضعت عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية لم تعد صالحة، وأنه يتعين تصور حدود جديدة للدول القومية الناشئة حديثا. ويأتي في صميم هذه التفسيرات الادعاء بأن العراق يعد «دولة مصطنعة»، وغير قابلة للاستدامة منذ البداية.
منذ بضعة أيام، تعرضت لهجوم شديد في برنامج يبث على تلفزيون «بي بي سي» من جانب أستاذ جامعي أميركي، لأنني اقترحت أنه يجب على الولايات المتحدة أن تظل بجانب العراق لبضع سنوات أخرى - كما كان الحال في ألمانيا الغربية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية - وذلك من أجل مساعدة العراقيين على توحيد وتعزيز المؤسسات الجديدة.
وفي هذا السياق، ردّ الأستاذ الأميركي بنبرة ساخرة، موضحا أن العراق - مع كونه دولة جديدة وليس لديه تجربة ديمقراطية - لا يمكن مقارنته بألمانيا التي لديها تاريخ طويل وخبرة ديمقراطية كبيرة. ولكنه لا يدرك، على نحو واضح، أن العراق لديه تاريخ يعود إلى ما لا يقل عن 4000 عام، أي قبل فترة طويلة من ظهور أولى القبائل الألمانية في أوروبا، فضلا عن أنه لا يدرك حقيقة أن ألمانيا أصبحت دولة قومية في عام 1870، وقد وصل العراق للمكانة ذاتها وأصبح دولة قومية في عام 1921، أي أنه بفاصل زمني بلغ نصف قرن - وهي مجرد فترة صغيرة من التاريخ - خرج كل من ألمانيا والعراق الحديث من تحت أنقاض الإمبراطوريات.
وفيما يتعلق «بالتجربة الديمقراطية»، فإن المأساة التي شهدتها ألمانيا تحت الحكم النازي، وكذلك العراق تحت حكم البعثيين، جعلت «التجربة الديمقراطية» تعاني من صعوبات. ولكن في ظل الحكم الملكي، تمتع العراق بنفس القدر من الحرية التي حظيت بها مختلف العناصر المكونة للدولة الألمانية المستقبلية في ظل حكم الأمراء الألمان.
يوحي المعنى الضمني لادعاء الأستاذ الأميركي المعارض لي بأن العرب أو المسلمين غير قادرين على العيش في ظل الحرية، وأن العرب والمسلمين بشكل عام مبرمجون جينيا لمحاباة الحكم الاستبدادي. فإذا كانت «الحداثة» و«الاصطناعية» المتعلقة بالعراق تعني أنه ليس لديه الحق في إقامة دولة حديثة موحدة، فلماذا إذن لا نطبق الأمر ذاته على الـ158 دولة الأعضاء بالأمم المتحدة، والتي تعد أكثر حداثة، كما أنها تعد مصطنعة بشكل أكبر مقارنة بالعراق؟ وذلك في ظل وجود هذا المعيار الذي يقضي بإمكانية تقسيم كل دولة في العالم من الداخل، وإعادة رسم كل الحدود.
صدق أو لا تصدق؛ العراق في شكله الحالي يعد واحدا من أقدم ثلاث دول عربية حديثة. بالطبع، هناك قوى كثيرة، جنبا إلى جنب عناصر قليلة داخل العراق ذاته ممن لديهم مصلحة خاصة في رؤية العراق ممزقا؛ فقد يتلاءم تفكيك العراق مع الاستراتيجيات الخاصة بهم، ولكن لن يكون هناك حل للأزمة الراهنة، والتي تضرب بجذورها أماكن أخرى.
من الممكن أن يكون أفضل وصف للأزمة الحالية التي يشهدها العراق بأنها حرب الطائفيين وليست حربا طائفية؛ فالعراقيون من السنة والشيعة الذين يشاركون في هذا الصراع ما هم إلا ضحايا. ويجب ألا تخدعنا المفردات الفقهية التي يستخدمها الطائفيون من كلا الجانبين، وذلك لأن لغات الدول الإسلامية، ولا سيما العربية، تفتقر إلى المفردات السياسية العلمانية، وقد بدا هذا الأمر جليا على مدار التاريخ الإسلامي، فالصراع الأول في الإسلام، بين علي ومعاوية، لم يكن له علاقة بالتفسيرات المتعارضة للدين، حيث كان هذا النزاع يتعلق بالسلطة السياسية، وكان ناجما عن التنافس على الإمامة. ومع ذلك، كان السبيل الوحيد للتعبير عن هذا التناحر آنذاك من خلال المعجم الفقهي، وهذا بدوره شجع - على مدى عدة قرون - على وجود الانقسام الطائفي.
والآن في العراق، يرغب رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في التشبث بالسلطة بقدر الإمكان، وهذا الأمر ليس له علاقة بكونه شيعيا، فقد كان يتبنى صدام حسين - الذي من المفترض أنه كان سنيا - موقفا مماثلا إلى أن جاءت نهايته المريرة. كما أن جماعة «داعش» وحلفاءها الذين يعيثون الفساد في الأجزاء الغربية للعراق تحركهم أيضا دوافع التعطش للسلطة وليس لأسباب تتعلق بتفسير خاص للدين، أي أنهم يقاتلون لأغراض سياسية متنكرة في زي الأغراض الدينية.
ويتضح ذلك من خلال حقيقة عدم قيام أي عالم دين يتمتع بمصداقية ينتمي لأي من الطرفين، بإكساب الصراع غطاء دينيا. فعلى الجانب السني، ناشد كل الفقهاء ممن يحملون نية حسنة من أجل تحقيق السلام والمصالحة، وعلى الجانب الشيعي أيضا، كانت اللهجة التي تبناها كبار رجال الدين تسير في أغلبها أيضا باتجاه تهدئة الأوضاع. ورغم مجموعة الضغوط السياسية التي يشهدها العراق، رفض كبار رجال الدين، أمثال آية الله العظمى السيستاني في مدينة النجف، وآية الله العظمى علوي بروجردي في مدينة قم، إعلان «الجهاد» ضد جماعة «داعش». ويمكن الإشارة فقط إلى آية الله مكارم شيرازي في مدينة قم الذي استخدم مصطلح «الجهاد»، مشيرا إلى جهله بالمبادئ والأحكام التي يتعين بموجبها إطلاق مثل هذه الدعوة للجهاد، ولكن يعد مكارم - مثله مثل «المرشد الأعلى» علي خامنئي - شخصية سياسية وليس دينية، وبالتالي لا يمكن التظاهر بالتعبير عن اتباع موقف فقهي.
وبالنظر إلى فتوى صرح بها آية الله العظمى علوي بروجردي، بأنه بغض النظر عن الخلفيات الطائفية، يتعين على العراقيين الخوض في القتال دفاعا عن النفس ودعما للقوات المسلحة النظامية ضد هؤلاء الذين يريدون تمزيق دولتهم، فلا يتعين على هؤلاء المغامرين - أمثال مقتدى الصدر - استغلال النزاع الراهن من أجل إعادة إحياء ميليشياتهم، والعودة بالعراق إلى الأيام القديمة السيئة واللجوء للإرهاب باسم الدين.
ويجب أيضا تحذير آخرين - بمن فيهم بعض الأكراد الذين يفكرون في مسألة الانفصال - ممن يصيدون في الماء العكر من خلال تعزيز مخالبهم السياسية، بأنهم قد يكونون في نهاية المطاف ضمن صفوف الخاسرين.
يمكن للعراق، بل يتعين عليه، أن يعمل على التغلب على تلك العاصفة الأخيرة التي يشهدها، وفي مصلحة الجميع أن يقوم العراق بذلك مع الحفاظ على سيادته ووحدة أراضيه.