المؤامرة كما يعرضها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: روسيا ضحية مؤامرة كبرى مصممة بعناية للحيلولة دون توليها لمكانها الطبيعي ضمن شبكات القيادة العالمية. حيث يحاول الأوروبيون حرمان روسيا من حق استضافة وتنظيم كأس العالم لكرة القدم في عام 2018. ويحاول الأميركيون تقييد روسيا عسكريا من خلال تعزيز القوات العسكرية لدول الجوار القريبة من روسيا. كما تتآمر فرنسا كذلك على تخريب خطط تحديث القوات البحرية الروسية، من خلال رفض تسليم حاملات المروحيات التي تعاقدت عليها موسكو مع فرنسا بل وسددت ثمنها. وأخيرا وليس آخرا، حتى الدول العربية، تحاول هي الأخرى إلحاق الضرر بالاقتصاد الروسي عن طريق تخفيض أسعار النفط عالميا.
حتى في الداخل الروسي، يرى بوتين الأمور من منظور «المؤامرات الشريرة». فالمنظمات غير الحكومية التي تنظم حملات لأجل التخلص الأكثر فعالية وكفاءة من النفايات النووية يُعتبرون «عملاء للقوى الأجنبية»، المجندين لتقويض الصناعة النووية الروسية. وصار الفرع الروسي لجماعة «السلام الأخضر» مرتعا خصبا للمؤامرات العالمية.
اللجان الشعبية الداعية إلى إصلاحات في نظام السجون أو إفساح المجال للمزيد من الفرص الممنوحة للنساء يُعتبرون «عملاء أجانب مدربين بعناية» ويعملون على تقويض أركان الدولة وإسقاط نظام الحكم من خلال «الثورات المخملية». والمئات من فرق الشباب والفتيات التي انتشرت من جبال الأورال حتى كامتشاتكا ليست إلا طلائع الهجمة المباشرة ضد الموسيقى الروسية والترفيه الروسي.
من زاوية السيد بوتين، فإن روسيا محاطة بكوكبة من الأعداء المتربصين. تحمل الصين قدرا عميقا من الاستياء للمساحات الضخمة التي احتلتها روسيا من أراضيها إبان الحقبة السوفياتية. وتحاول دول آسيا الوسطى بقدر إمكانها إيجاد الكثير من المياه الزرقاء التي تفصلها عن روسيا. وتأوي شعوب البلطيق إلى أفرشتها يوميا داعية ربها أن ينهار ما تبقى من الإمبراطورية الروسية على غرار ما شهده الاتحاد السوفياتي القديم.
وماذا عن أهل أوكرانيا؟ حسنا، أنحن بحاجة إلى ذكر المزيد؟
حتى روسيا البيضاء، آخر المفارقات التاريخية الأوروبية المتبقية من آثار الحقبة السوفياتية، يُنظر إليها باعتبارها أحد الأعداء المحتملين للدولة الروسية.
ليس من شك في أن الكثير من الدول، القريبة والبعيدة والكبرى والصغرى، لا تحمل شعورا بالارتياح حيال روسيا وتجلياتها الحالية على المشهد العالمي. إن روسيا بكل بساطة دولة كبيرة للغاية، وبكل المقاييس المعروفة، فهي دولة قوية للغاية ولا يمكن تجاهلها. ومع ذلك، فما من دليل واضح على وجود مؤامرة دولية تحول بين روسيا واحتلال مكانها المناسب في الأنماط الناشئة من العلاقات الدولية. ليس من المستغرب أن بوتين، الذي قضى معظم شبابه في مهنة الاستخبارات السرية، يعتقد أن السياسات الدولية تبدو مثل دمية الـ(ماتريوشكا) الروسية الشهيرة التي تضم كل دمية بداخلها دمية أصغر منها. يمكن لتحليل بوتين التآمري أن يميل ناحية الهامش القومي الضئيل الذي يوفر العمود الفقري اللازم لشعبيته المستمرة داخليا. كما أن كافة المجتمعات التي لم ترقَ لمرحلة النضج السياسي تفضل إلحاق اللوم فيما يخص مواطن القصور الداخلية على المؤامرات الخارجية.
في مثل تلك المجتمعات، يمكن لقلة من الناس تصور الفوارق السياسية الحقيقية والمنافسات المشروعة بينها. فأي شخص لا يتفق معك على أي قضية ليس إلا أنه «عميل للخارج»، بل و«خائن». وأن أي دولة تدافع عن سيادتها وكرامتها لا يمكن إلا أن تكون عاقدة العزم على تدميرك أنت. إن ذلك النوع من التفكير والتصور لا يصب إطلاقا في الصالح الروسي، بل ويعد خطيرا على الآخرين. وإن بعضا من آثاره السلبية بدت جلية للعيان مؤخرا.
في أوروبا، خلف الصراع على أوكرانيا جرحا متقيحا ما بين روسيا وأوروبا سوف يترك آثاره السيئة على الجسد السياسي في كل أرجاء القارة مع الاستنزاف المستمر للموارد الروسية. ولقد خلق بوتين تلك الأزمة بذاته من واقع النزعة الإمبراطورية للاستيلاء على الأراضي بضمه لشبه جزيرة القرم في حين يساند، إن لم يكن في واقع الأمر يدير، الحركة الانفصالية من الطراز العتيق ضد الحكومة في كييف.
وأدى الضم الفعلي لجمهورية أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا القوقازيتين إلى خلق مناخ من انعدام الأمن الذي يؤثر بالتأكيد على كامل المنطقة ولما وراء جورجيا نفسها.
وعبر إقليم القوقاز المترامي الأطراف، وبدلا من تطويع القوة والهيبة لإحلال وتعزيز السلام، فإن الدعم الروسي وحيد الجانب لأرمينيا حال دون الوصول إلى تسوية تفاوضية للنزاع هناك مع أذربيجان حول إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه منذ عقود. وتنافيا مع الحس السياسي السليم، صنعت روسيا كل ما في وسعها لتقليل الضغط الدولي المفروض على كوريا الشمالية ونظامها البغيض، مما أفسح الطريق أمام بيونغ يانغ للاستمرار كقنبلة موقوتة في انتظار الانفجار في ذلك الركن البعيد من آسيا.
أما في الشرق الأوسط، فألقت روسيا في عهد بوتين بثقلها خلف نظام بشار الأسد المحكوم عليه بالفناء في دمشق بمعاونة من الملالي في طهران. والناتج الصافي لذلك كان واحدة من أكبر المآسي البشرية التي شهدها العالم خلال الخمسين عاما الماضية. ومن واقع تلك العملية، تكون روسيا قد وضعت عبئا كبيرا على علاقاتها مع كافة الدول العربية والإسلامية تقريبا.
إن حالة المودة الغريبة التي تجمع بوتين بملالي طهران قد أثارت مشاعر العداء القديمة ضد روسيا والمتجذرة في الضمير والتاريخ الإيراني لما يزيد على قرنين من الزمان. وكانت حالة الغزل الروسي مع الحوثيين، بفضل الله، وجيزة ولكنها برغم ذلك سببت قدرا من الضرر لقضية السلام في اليمن غير السعيد من خلال تشجيع الصقور على التمسك بأحلام السيطرة على السلطة الحصرية في البلاد.
ويأسف بوتين نفسه لحقيقة مفادها أنه حتى الجمهوريات السوفياتية السابقة باتت تنأى بنفسها عن «روسيا الأم» عن طريق تبني الأبجديات اللاتينية أو العربية أو الفارسية في مناهجها التعليمية وتستعيض عن اللغة الروسية باللغة الإنجليزية كأكثر اللغات شعبية لأجيالها الناشئة. حتى دولة منغوليا القارية المغلقة تدير علاقاتها التجارية الآن مع الولايات المتحدة البعيدة أكثر مما تديرها مع روسيا المجاورة التي تتشارك معها في حدود تجاوز 3500 كيلومتر طولا.
وفي سياق أوسع، العلاقات الروسية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تشهد توترا أكثر من أي وقت مضى منذ الخمسينات وبداية الحرب الباردة. وقد بدأ بوتين في صورة كاريكاتيرية كبطل لأفلام جيمس بوند، حينما دفع بإحدى قاذفاته الثقيلة للتحليق بالقرب من المجال الجوي الوطني للكثير من دول حلف شمال الأطلسي. وفي الأول من مايو (أيار) الماضي استدعى شبح الرئيس بريجنيف الرهيب لما ترأس احتفالية عسكرية ضخمة في الساحة الحمراء بقلب موسكو.
وفي حين أنه ما من شك في إلقاء جانب من اللوم على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فما من مفر أيضا من حقيقة مفادها أن نزوع بوتين للصلف والتبجح ومذاق نظريات المؤامرة قد ساهم كذلك في تعزيز ذلك الوضع المؤسف. إن روسيا دولة عظيمة مقدر لها مساهمات عظيمة في إرساء السلام والتفاهم العالمي. ومع ذلك، لا يمكن تحقيق ذلك باستعراض العضلات والضرب بالقبضة الحديدية على رؤوس الجيران الضعفاء.
في هذه الأيام، يرى الناس القنابل الروسية التي تتساقط من السماء على رؤوس السوريين العزل والصواريخ الروسية التي تستهدف المدنيين في شرقي أوكرانيا.
إن استيعاب روسيا في النمط الناشئ من العلاقات الدولية لهو من أقسى التحديات التي تواجه كافة الدول المعنية. وبرغم ذلك، لا يمكن إنجاز الكثير في هذا المضمار حتى يلقي بوتين نظرة ناقدة جادة وحاسمة على معتقداته الراسخة من أن السياسة تتساوى مع المؤامرة.